رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

شاعر بحجم قارة «نيرودا».. وأسئلة الوعى التى لاتنتهى

ماجد كامل;

يقف نيرودا متميزا وسط كتيبة من الشعراء والفنانين والكتاب الافذاذ الذين يستوون فى الجبهة ذاتها،وفى نفس الفضاءات السياسية والأيديولوجية والإبداعية: امثال لوركا، والبرتى، وناظم حكمت، واراجون. يقول عنه جابرييل جارثيا ماركيز «إن بابلو نيرودا هو من أفضل شعراء القرن العشرين فى جميع لغات العالم».


فنيرودا، الذى حلت فى الثالث والعشرين من الشهر الماضى الذكرى السادسة والاربعين لرحيله، ليس شاعرا شعبيا بالمفهوم الاستهلاكى أو السياسى أو الآنى، لأن شعره يحتاج إلى تأمل، وإلى درجة ما من الثقافة والوعى الجمالى، والتلقى الإيجابى »النقدى»، أى انه شاعر مُهيأ ليُقرأ فى كتاب، لا يسمع فى مهرجان. وحتى قراءته تحتاج الى جهد قد لا يقوم به سوى »النخب» »مع انه يعارض مفهوم النخبة». فقصائد مثل »النشيد العمومى» أو »السيف الملتهب»، أو »يوميات الإقامة»... أو حتى »حجارة شيلى»، هى قصائد ذات بُنى مركبة. وهنا نصل الى نقطة هامة: فقلّما كتب نيرودا قصائد متفرقة. كانت كل قصيدة عنده »أو معظمها» مشروع كتاب مؤلف بدأب وصبر وبهواجس فنية عالية. معظم قصائده طويلة، تمشى فى الزمن. ويعنى ذلك أن هاجس »الكتاب» كتجربة متكاملة كان يسكن بال نيرودا. من هذه الناحية، وارتباطا بقصيدته المركبة لا المبسطة، يأتى دور القارئ »المبدع» الجلود والمكتشف والمتفاعل »لا المنفعل فقط» أكثر من القارئ الجوال، أو العابر.. نيرودا اذن شاعر كبير. وحالم كبير. وتراجيدى كبير،يحتاج إلى قارئ كبير. تذوب فى اشعاره عصارة قارة كاملة هى امريكا اللاتينية، بكل تواريخها، وأساطيرها، وأحلامها، وأفكارها، ونضالاتها، ومستبديها وسجونها، ومنافيها. فنيرودا هو بحق شاعر القارة، وهو بحق »»الشاعر القارة»،حيث يتمتع شعر نيرودا بدرجة عالية من الرهافة والعمق، وتتعدد مستويات إدراك المتلقين لشعره و تتدرج لتصل إلى أغوار بعيدة من التحليل الفكرى والسياسى لمضمون القصائد لماذا بقى نيرودا؟ إن نيرودا شاعر شيلى الاشهر والذى عاش بين الاعوام 1904و1973 قد اكتسب ما اكتسبه من هالات وأسطورة، ليس فقط بسبب نهايته »المأسوية» بسرطان البروستاتا وإحراق منزله، ومتاعه ومكتبته... وإنما لأنه ايضا استطاع بشعره أولا وأخيرا ان ينجو، وان يبقى رغم موته بالجسد بعدما سقطت الأيديولوجيات وقبلها الأنظمة التى تبناها كيسارى وشيوعى ملتزم. بمعنى آخر،إن شعر نيرودا، »وحتى نيرودا كرمز» ما زال يحتفظ بقوته ونضارته بعد زوال مختلف الظروف التى ساهمت فى تغذيته وشحنه، بل إنه يبدو الآن اكثر حضورا مما كان فى تلك المرحلة، ذلك ان الهالات السياسية التى كانت تحاول أن تستغل هذا الشعر فتغلفه وتعلبه وتحجب طاقته الهائلة، وتقننه وتوجهه توجها »احاديا» »اى توجها أيديولوجيا بالدرجة الأولى»، عبر الأدوار التى لعبتها الاحزاب والتنظيمات السياسية »لأهداف أحيانا دعائية» قد تبددت، لتترك الشعر وحيدا بحياته الخاصة، بقيمته النسبية، وهذا تحديدا ما شعرت به وانا أراجع دواوينه: من كتاباته الأولى فى العشرينيات، وحتى كتاباته الأخيرة فى السبعينيات أى قبيل وفاته، وما صدر بعد رحيله شعرت أولا بأننى اكتشف حجم نيرودا الشعرى بعيدا عن صورته الطاغية »كمناضل سياسى». وثانيا:شعرت بأن قراءاتى لهذا الشاعر الكبير قد تحررت مما يجعلها تقع فى أحكام مسبقة، والتى ورثناها من »الطليعيات» الشعرية والنخبوية. فعلينا أن نلاحظ أن علاقة نيرودا بالرمزية »كمدرسة» كعلاقتة بالسيريالية »كمدرسة أيضا» وبالرومانتيكية، علاقة تقاطع ومغادرة. فهو ابتعد عن الوقوع فى التصنيفات. وفى الكاتدرائيات النظرية الصارمة. أى ابتعد عن تبنى إحدى هذه المدارس كأبجدية مكتملة، ليستغلها كمفردات. ويكون بذلك قد تحرر من كل ربقة أو جماعة أو لغة جاهزة. فكل المدارس تخضع لنظريات جاهزة،وهذا مقتلها. نقول هذا من دون أن نغفل أن نيرودا الذى نأى بنفسه عن الارتباطات الجمالية المحددة، قد التزم الفكر الماركسى، أو الشيوعى، كمناضل وكحزبى حتى آخر أيامه. هل هو تناقض؟ ربما! لكن علينا أن نعرف أن نيرودا بقى فى مجمل نتاجه ذا التزام مفتوح. شيوعيا منفتحا. بلا علامات طريق مفروضة. ولا ارتباط مقنن. أى انتصر الشاعر على الإيديولوجيا. وعلينا أن نعرف انه، وعدا بعض شعره السياسى المباشر، كتب معظم شعره خارج هذه الالتزامات الإيديولوجية الضيقة، سواء فى قصيدته الرائعة»حجارة شيلى» أو فى »قصائد الحب»، أو فى »سيف اللهب»... وهى أعمال مشرعة على الشرط الإنسانى العمومى، لكن عبر تواريخ وطنه شيلى وأمريكا اللاتينية. »هكذا كان لوركا والبرتى بالنسبة الى إسبانيا، وناظم حكمت بالنسبة الى تركيا، بل وعلينا أن نلاحظ أن نيرودا وظف كل العناصر والمدارس الجمالية فى زمانه، فى خدمة قصيدته الخاصة. أى قصيدته التى بقيت خارج التصنيف. ولكن يجدر بنا أن نلاحظ أنه إذا كان نيرودا من أصحاب الضربات الجمالية العالية، وتلك الكيميائية الخصبة فى صهر العناصر لصوغ قصيدة متماسكة، فإنه فى المقابل بقى شاعر الضوء بامتياز: أى شاعرا لم يلجأ وعلى امتداد مراحله »عدا مرحلة شبابه عندما انفعل بكثير من السيريالية أو الرمزية»، لا إلى الغموض، ولا إلى الالتباس »علما بأن صورته بعناصرها تؤدى الى التباس مضيء، أو التباس بلا تعمية»، ولا إلى الصيغ الوعرة، ولا إلى عتمة الداخل،، قد يلتقى السيريالية لكن يفترق عنها. أقصد أن كل أسطورة هى »فعل» مركب وإدهاشى فى ذاته، ينفتح على مجمل الظواهر »العجيبة» و»الغريبة» لأنه يتجاوز الحسابات »العقلانية» الى ما هو مقدس، أى الى ما هو فوق عقلانى. هذه هى طبيعة الحكاية. أو الأسطورة. هذه الجماليات الغامضة بمثابة جسور إلى الآخرة، لا فجوات ولا جدران. ذلك أن نيرودا هو شاعر الذات وشاعر الآخر بامتياز.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق