اللبنانيون من كل الطوائف والاتجاهات، شبابا وشيوخا، نساء ورجالا من جميع الأعمار غاضبون على الطبقة السياسية التى تحكم البلاد، تواصل جموعهم حشودها وسط العاصمة بيروت وفى معظم المدن اللبنانية، وتمتد إلى أغلب مدن المهجر فى أوروبا وأمريكا وإفريقيا، يرفعون علماً واحدا هو علم لبنان، ويُجمعون على قضية واحدة، تدين الطبقة السياسية الحاكمة لفسادها وسوء إدارتها، يستثنون بالكاد رئيس الوزراء سعد الحريرى الذى يكاد يكون الرابط الوحيد الذى يجمعهم الآن حول ورقة إصلاح تنطوى على عدة بنود، تلقى قبولا عاما من معظم الكتل السياسية والطائفية، تطالب بخفض رواتب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وكل الوزراء والنواب، واتخاذ إجراءات تقشف صارمة ضد جرائم التهرب الضريبى، والتوسع فى قروض الإسكان للشباب، وتقليص عدد السفارات اللبنانية فى الخارج، وخصخصة بعض القطاعات وأولها الاتصالات، وتقديم أهل الاختصاص على أهل الطوائف, لكن الجميع على اختلافهم يساند بقاء الحكومة، وحده سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية وميليشياتها هو الذى انسحب من الحكومة، رافعا شعار تسقط الحكومة، بدعوى أن الاصلاح قد فات أوانه ولم يعد مجديا, وأن سوء الحال الراهن يتطلب ثورة وتغييرا جذريا ويتنصل الجميع من أى مسئولية بمن فى ذلك رئيس الحكومة ووزير الخارجية جبران باسل الذى يترأس أكبر تكتل نيابى، ويكاد يكون رئيس حكومة الظل ويلقون بالمسئولية على خصوم مجهولين رغم السلطات الواسعة التى يتمتعون بها. وبينما تواصل حشود اللبنانيين احتجاجاتها التى شلت العاصمة بيروت ومختلف المناطق اللبنانية، وأدت إلى إغلاق الجامعات والمدارس والبنوك، وتمديد الإضراب العام الذى يشارك فيه 16 ألف موظف حكومى من أصحاب الدخل المحدود الذين يشكلون وقود الاضرابات والاحتجاجات، يواصل رئيس الحكومة سعد الحريرى مشاوراته مع مختلف الكتل السياسية باستثناء القوات اللبنانية التى يرأسها سمير جعجع وأعلنت استقالة وزرائها من الحكومة، مؤكدا أن ورقة الإصلاحات التى قدمها لا تحتمل التأخير، بعد إقرار مجلس الوزراء للورقة الاقتصادية التى تضم مجموعة من الاصلاحات بعد التصويت عليها، لكن الجدير بالذكر أن أحداً لا يطالب باستقالة حكومة سعد الحريرى حتى لا ينفرط عقد لبنان، رغم الاضرابات التى تتسع دائرتها، وتكاد تشل كل أوجه الحياة فى لبنان.
وقد نشطت أخيراً جهود قمع المتظاهرين وسط تحذيرات عديدة من مغبة الإفراط فى عملية القمع واستخدام القوة، خوفا من أن يؤدى ذلك إلى المزيد من غضب الشارع اللبنانى، والسؤال المهم، ماذا بعد وما هو العمل؟ لا يبدو واضحا أن هناك مخرجا قريبا للأزمة، أو حلولا مطروحة لمداواة الشكاوى المتصاعدة من ارتفاع الأسعار وتفاقم البطالة وقلة التوظيف وندرة العملة الصعبة فى الأسواق، وتبلغ الأزمة ذروتها حتى إنها تكاد تكون الأسوأ والأكبر منذ ثورة الأرز عام 2005 لكن الحقيقة الواضحة لكل العيان، أن الجميع يساند بقاء الحكومة حتى لا يذهب لبنان إلى المجهول، ومن أجل تعزيز شرعية الاجراءات التى يعتزم الحريرى اتخاذها تطبيقاً لورقة العمل المقترحة، يصر رئيس الحكومة على طرح ورقة العمل للتصويت فى جلسة مرتقبة لمجلس الوزراء، ويبقى السؤال المهم، هل تلبى الورقة الاقتصادية التى قدمها سعد الحريرى مطالب الانتفاضة بحيث تنتهى الأزمة وتتشكل خارطة طريق واضحة يتوافق الجميع على الالتزام بها؟، ربما يكون من الصعب تقديم إجابة قاطعة لكن ما من شك أن الورقة تنطوى على عدد من الاقتراحات والإجراءات المهمة، فى مقدمتها مساهمة القطاع العرفى فى خفض عجز الموازنة، وخفض رواتب المسئولين الكبار، إضافة إلى عدد من إجراءات التقشف والتصحيح التى تشمل تقديم أهل الاختصاص على أهل الطوائف، لكن الورقة لا تلبى مطلبا حيويا يتعلق بتكافؤ حقوق المواطنة التى يحول دونها نظام الطوائف الذى يوزع المسئوليات والمناصب وفقا لحقوق كل طائفة دون اكتراث بمن هو الأصلح والأكفأ. أزمة لبنان برمتها تقول لنا إن نظام الطوائف يعجز الآن عن إيجاد حل صحيح يضمن تكافؤ حقوق المواطنة الذى يشكل الآن حجر الزاوية فى بناء الدولة الوطنية الحديثة والضمان المهم لوحدة المجتمع وترابطه، وإعلاء سيادة الدولة والقانون.
لمزيد من مقالات مكرم محمد أحمد رابط دائم: