رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

علماء العرب وعلماء الغرب (6) ابن رشد

وقد تكونت الفلسفة فى المغرب كما حدث فى المشرق، وذلك فى نفوس أفراد جذبتهم الرغبة إليها فتعلقوا بها، غير أنها كانت فى المغرب بشكل متفرق لا تربطهم مجالس من شيوخ الفلسفة يستمع المريدون لهم ويتجادلون معهم، كما كان يحدث فى المشرق، ولكن فى الحقيقة غير جاذبة لعقيدة جمهور كبير لها، فى حين أننا نجد فى المشرق درجات كثيرة أو متوسطة بين العقيدة الدينية، وبين العلم، أى بين عامة المؤمنين، وبين الفلاسفة، ولذلك كانت مشكلة المفكر الحر بالنسبة للدولة، وبالنسبة للجمهور المتعصب، الضيق العقل أكثر حدة فى المغرب منها فى المشرق.

يقول دى بور إن المرابطين أكثر تمسكا بالدين، وأكثر خبرة وبراعة فى أمور السياسة من الأسر الأندلسية الذين كانوا منغمسين فى الترف، حيث انقضى زمن الثقافة الرفيعة وحرية البحث، ولم يكن يجرؤ على الظهور فى الناس من أهل الفكر إلا مجموعة من أهل الحديث الذين يتصفون بالتشدد، وكان الفلاسفة عرضة للاضطهاد أو القتل إذا هم أعلنوا أفكارهم.

ظلت مقاليد الحكم فى العالم الإسلامى بالمغرب تحت سطوة البربر، ولكن ما لبث أن حلت دولة الموحدين محل دولة المرابطين، وفى عهد أبى يعقوب يوسف وخلفه أبى يوسف يعقوب بلغت سيادة دولة الموحدين من القوة حتى فرضت سيادتها على المغرب، وكانت عاصمتها مراكش. قام الموحدون بالتجديد فى علم الكلام، وأدخلوا مذهب الأشعرى ومذهب الغزالى، حيث كانا حتى ذلك الوقت موسومين بالزندقة فى المغرب، وكان هذا يعنى دخول النزعة العقلية فى مذاهب المتكلمين، وهو أمر استنكره البعض من المتمسكين بالعقيدة الأولى، وكذلك من جانب المفكرين الأحرار، ولكنه فى الوقت نفسه دفع الكثير من المفكرين إلى التفلسف إلا أن الأمر ظل مرفوضا عقليا حتى إن كثيرا من الفلاسفة والساسة نادوا، فيما بعد بعدم تزعزع عقيدة العامة، وعدم رفعها إلى مستوى المعرفة العقلية وأعلنوا فصل مجال الدين عن مجال الفلسفة تماما. إلى جانب اهتمام الموحدين بالمذاهب الكلامية فإن أبا يعقوب، ومن جاء بعده أبدوا بقدر الإمكان اهتماما بالعلوم العقلية مما أدى إلى ازدهار الفكر الفلسفى زمنا إلى حد ما فى قصورهم. ولذلك تبوأ الفيلسوف أبو بكر بن طفيل المناصب الكبرى عند أبى يعقوب، وكان هو الواسطة القريبة التى ألحقت فيلسوفنا ابن رشد بمعية هذا الخليفة، وكان ابن طفيل رجلا يهوى الفلسفة أو الرجل غير المتخصص الذى يلم بأشياء من غير أن يتعمق فيها، وهذا ما جعله يعجب، بما لدى ابن رشد من علم غزير، ومن ثم قربه إلى أبى يعقوب. نحن نستطيع أن نجمل مذهب ابن رشد بأنه مذهب عقلى، فهو يدين بالعقل ويقدسه ويرفع دائما من شأنه، وعن طريقه أو بمنهاجه يقوم بتفسير الوجود والمعرفة.

ويرى ابن رشد أن العقل يقوم أساسا على المعانى الكلية التى، كما يقول: «تضم تحت جناحيها أشتات الجزئيات» وقد ثار جدل فى العصر الوسيط حول مفهوم الكليات، وهل هذه الكليات هى مجرد أسماء لها وجود مادى أم أنها لا وجود حقيقيا لها فى الخارج أى خارج الذهن، أم أنها مجرد تصورات عقلية، ولكن ابن رشد مفكر صريح وواضح وحاسم فى تصوراته، فإنه لذلك يرى أن الكليات تصورات ذهنية، أى يحتويها الذهن، ولا توجد خارجه، وذلك على عكس الشيخ الرئيس ابن سينا الذى هو يمسك العصا من وسطها، ويقول ابن رشد فى تلخيصه كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو: «وأيضا متى أنزلنا هذه الكليات موجودة خارج النفس لزم أن يكون لها كليات أخرى خارج النفس بها يصير الكلى الأول معقولا، وللثانى ثالثا، وذلك إلى غير نهاية، وليس يلزمنا هذا الشك متى وضعنا الوجود الكلى الذهن».

يقول المستشرق دى بور إن أبرز ما يميز ابن رشد عمق سبقه، خاصة ابن سينا، هو المفهوم الذى يتصور به العالم على أنه عملية تغير وحدوث منذ الأزل، تصور ليس به أى نوع من اللبس، وأن العالم فى جملته وحدة أزلية ضرورية، لا يجوز عليه العدم، ولا يمكن أن يكون غير ما هو عليه، والهيولى والصورة لا يمكن انفصال إحداهما عن الأخرى إلا فى الذهن، وأن الصورة لا يمكن انتقالها فى المادة المظلمة كما تطوف الأرواح الخفية، بل تحتويها المادة على هيئة نواة تتطور، والصورة المادية التى هى مثل القوى الطبيعية لا تفتأ أبدا تحدث توليدا، ومع أنها لا تنفك عن المادة، فيجوز أن تسمى إلهية، وليس هناك وجود من عدم، ولا عدم بعد الوجود «وهذا ما وصل إليه علماء الغرب بعد ذلك فى قانون» «المادة لا تفنى» لأن كل ما يحدث هو خروج من القوة إلى الفعل ورجوع من الفعل إلى القوة، وفى هذا لا يصدر عن الشيء إلا مثله. ويرى ابن رشد أن الموجودات هى مراتب بعضها فوق بعض، وأن الصورة المادية أو الجوهرية هى فى المرتبة الوسطى بين العرض المجرد، وبين الصورة الخالصة، ويقول فيلسوفنا العقلى إن الصور الجوهرية متفاوتة المراتب أيضا، وهى حالات بين القوة، والفعل ثم الصور فى مجموعها، وذلك بأن ادناها أى الصورة الهيولانية إلى أعلاها أى الذات الإلهية التى هى الصورة الأولى للعالم تؤلف سلسلة واحدة متصلة بعض أجزائها فوق بعض. ويواصل المستشرق دى بور تفسيره لتصور ابن رشد للعالم على أنه إذا كان التغير داخل النظام الكونى ازليا، فإنه لابد له عندئذ من حركة أزلية، وتحتاج هذه إلى محرك أزلى، ولو كان هذا العالم حادثا فوجب علينا القول أو الاعتقاد بوجود عالم آخر حادث نشأ منه وهكذا إلى غير نهاية، ولذلك يذهب ابن رشد إلى القول إن العالم كل متحرك منذ الأزل ضرورة هو وحده الذى يضمن لنا إمكان الوصول إلى إثبات موجود مفارق للعالم، محرك له منذ الازل، وهذا الموجود بايجاده تلك الحركة الدائمة، وبايجاده لنظام العالم البديع خليق بأن يسمى موجد العالم، ويحدث تأثيره فى العالم بتوسط العقول المحركة للأفلاك، وكل نوع من الحركة فى هذا العالم لابد من أن يكون له مبدأ خاص به.

وقد يسأل سائل عن العلم الإلهى إذا كان هذا العلم يحيط بالجزئيات أم هو لا يعلم سوى الجزئيات فقط؟ فتجئ إجابة ابن رشد بأنه لا يعلم هذه، وتلك وهو يحاول هنا أن يبسط رأى المشائين ويقره، فيبرر السبب فى معرفة العلم الإلهى لا يعلم كلا من الكليات والجزئيات لأن الذات الإلهية منزهة عن كليهما، والعلم الإلهى يوجد العالم، ويحيط به وهو الصورة الأولى والغاية لكل شيء، هو نظام العالم، وملتقى جميع الأضداد، وهو الكل فى أسمى صور وجوده، ويرى دى بور «أنه من البين بداهة أنه حسب هذا الرأى لا يمكن القول بعناية إلهية بالمعنى المألوف لهذه العبارة». للحديث بقية.


لمزيد من مقالات مصطفى محرم

رابط دائم: