الدين رسالة الله تعالى إلى مخلوقاته، هذه الرسالة هى أساسه وقوامه وغايته، والأديان تنشأ وتنتشر بتحريك عواطف ووجدانات الناس وتحريك عقولهم، إلى مُثلها العليا.. من توحيد وإيمان وقيم ومبادئ وأخلاق، فإذا استغنت الأديان بقوة الدفع والاستمرار عن تحريك العواطف والعقول نحو المُثل العليا، فقدت قوامها وغايتها ورسالتها، وصارت سياسة وليست دينًا..
لا يوجد فى أى دين حين يتحول إلى سياسة تجرد حقيقى لأداء دور الرسالة، لا يغير من هذه الحقيقة أن تنحو الحركة الدينية السياسية، أو السياسية الدينية، فى خطابها وفى سعيها إلى بعض مظاهر الدين، أقول مظاهر ولا أقول قيما ومبادئ وحقائق.. فالقيم والمبادئ مغيبة مادامت السياسة هى الغرض والغاية، ولا يُلجأ إلى الدين إلاَّ لاستغلال مظاهر تعطى انطباعًا بأن الدين قوامها، وهذا كذب وتضليل، لا ينخدع به إلاَّ الجهلة والسذج الذين تخيل عليهم المظاهر ولا يغوصون إلى الجوهر والبواطن.
تهجر هذه الدعوات القيم الدينية لأنها فى الواقع تتعارض مع سياستها وأغراضها وسلوكها ويخلو خطابها منها ، فإذا اضطر لتناولها من باب المخاتلة والخداع, تناولها بالتزييف والتحريف والتأويلات المغلوطة!
يخلو خطاب هذه الدعوات التى تحولت إلى السياسة من مبدأ قدسية الروح الإنسانية فهى هبة الخالق البارئ عز وجل ونفحته لخلقه الذين فضلهم على كثير من خلقه تفضيلاً كما قال فى القرآن الكريم: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً». هذه الروح التى خلقها الله لا يملك حياتها إلاَّ الله ، ولا يجوز لغيره سبحانه أن ينهيها، بيد أن الجماعات المتأسلمة لا تستطيع أن تقدم هذا الخطاب لأنه يتعارض مع العنف والتقتيل والاغتيال الذى تمارسه وتتبناه .
من مناقب الأديان الصدق والأمانة والاستقامة والوفاء بالوعود والعهود ، والنهى عن الرياء والكذب والمداهنة والنفاق ، وعن الخيانة بكل صورها . بيد أن هذه الدعوات لا تستطيع أن تصدر هذا الخطاب ، ولا أن تتبناه ، لأن كل هذه المناقب والشمائل الدينية تتعارض مع سلوك وعنف وأغراض هذه الجماعات، وأغراض سياستها على نقيض هذه القيم، فممارساتها تقتضى الكذب والنكث والرياء والخيانة والمداهنة والنفاق، لذلك قيل فى الحكم والأوابد إن الدين والسياسية ضدان لا يجتمعان، وإذا اجتمعا لا يتمازجان، فالدين من روح الله، والسياسة من صنع الناس!.
وهذا التشتت بين الوشاح الدينى الذى تحرص هذه الحركات على الاتشاح به، وبين ممارساتها طلبًا للحكم وسعيًا إليه، أدى ويؤدى إلى إضعافها فى الدين وفى السياسة معًا. فالدين الذى يُتخذ وشاحًا وستارًا، تغيب مبادئه وقيمه ومثله العليا، ويفقد من ثم روحه ورسالته، والسياسة التى تتلمس أسبابًا ملتبسة تغيب فطنتها السياسية وإعدادها للكوادر القادرة على الريادة فى المجالات الرشيدة. ويخطئ من يظن أو يتلاعب بأن التفقه فى الدين كان أساس الاختيار للولاية والقيادة فى صدر الإسلام، فقد كان الاختيار لكل ولاية بحسبها، عملاً بقوله سبحانه وتعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين»ُ، فقيادة الجيوش للأقوياء، وولاية المال للأمناء، وهكذا .. فلم تكن قيادة خالد بن الوليد لتفقهه فى الدين، وإنما لقوته وخبرته وصبره على القتال وجلده وتحمله أهواله، ولم ينفع ذا النورين عثمان تدينه وتفقهه حين غلبه بنو أمية على أمره فى أواخر خلافته، وكان عمر بن الخطاب على عدله ودينه يقول وهو أمير المؤمنين: لولا علىّ لهلك عمر ــ إقرارًا بتفقه الإمام على فى الدين، ولجوئه إلى علمه وتفقهه فى كثير من المعضلات.
لا تدرك هذه الجماعات التى تتشح بالدين، وتلعب بأحط أساليب السياسة، سعيًا إلى الحكم والوثوب إليه لا تدرك أن الإسلام لم يتقدم لأنه قوض إمبراطوريات. انفتاح الإسلام على الدنيا إنما كان يرمى إلى بث هداية الله إلى الإنسـان حيث كان.. لـم يكن هدفه علوًّا أو تجبرًّا فى الأرض، وإنما إلى إقامة عالم جديد كل الجدة، قوامه النور والتوحيد والهداية، وأساسه الصلاح والأمان والإخاء.
تقدم الإسلام والمسلمون، وأقاموا الإمبراطورية العظمـى، والحضارة الرفيعة، لأن عيون الدعوة كانت ملتفتة من واقع الدين نفسه ومبادئه ومثله وأحكامه ـ إلـى البنـاء وإقامـة ما ينفع الناس من هداية ونظام وصلاح هو رسالة الإسلام ذاته إلى الدنيا، وهى رسالة نور وهداية.. تتغيا تغيير الواقع الكئيب إلى خفقات جديدة تشد الحياة والأحيـاء إلى الأمـام بقيم باقية تختلف عما كان فيه الناس!
الهداية والإصلاح والتغيير هى عمود وروح الإسلام وهى مع وفائه وأمانه، التى أتاحت هذا النماء الذى إليه الحضارة الغابرة. الانحصار فى التغنى بالاستقواء أو التقويض! هو التفات ضرير عن القيمة الحقيقية لعوامل الهداية والإصلاح والتواصل والبناء الذى عمرت به الحياة الجديدة فى أقطـار الإسلام!.
روح وعمود الإسلام هو فى هذا الجوهر الذى عَمَّر به الإسلام حياة الدنيا ووصل به حيوات الناس. قيمـة الإسـلام فى هدايته وما قدمـه إلـى الدنيا لتستقبل بـه عالمًا جديدًا كل الجدة، قوامه الهدى والنور والإيمان والإحساس بالأمـان.. مجد الإسلام الحقيقى هو تلك الروح التى استطاع بها أن ينقل الدنيا من عهد مظلم إلى نور جديد.. قيمة التراث هى فى قدرته على بعث عقول ونفوس جديدة مزودة بهذه الروح التى بها خطا المسلمون خطوات سبقوا بها زمانهم وعالمهم إلى مزيد حققوه من الوفاء والأمان، ومن السلام والعطـاء ومـن الاستنارة والعلم والمعرفة. حين تنسلخ هذه الجماعات من الوطنية وقد انسلخت تكون النتيجة الحتمية العصف بمبدأ المواطنة والمساواة ، وتغليق الحريات وهضم حقوق الأوطان والتضحية بها لخدمة أوهام وأطماع هذه الجماعات التى ابتعدت فى الواقع عن الأديان وعن الحياة!.
إنَّ مثل هؤلاء الذين باعوا أوطانهم، كمثل الذى يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص فلا أحد يغفر له ما فعله ببيت أبيه ولا اللصوص سوف يكافئونه على خيانته.
لمزيد من مقالات رجائى عطية رابط دائم: