كان الدرس الأول من حرب أكتوبر هو فن التحدى والاستجابة الذى تحدثنا عنه فى المقال السابق فى ضوء نظرية أرنولد تُوينبى التحدى والاستجابة، ونظرية كارل يونج فى علم النفس السلوكي. وفى مقال اليوم سوف نتناول درسين آخرين، هما:
الدرس الثاني: من الاستثناء إلى أسلوب حياة: كان العقل الذى صنع نصر أكتوبر لحظة استثنائية انتهت للأسف بانتهاء الحرب، وبعدها عاد العقل المصرى لطريقته المعتادة. ولهذا نسأل دوما كيف نستعيد روح أكتوبر، كيف نستطيع تحويل هذه الحالة العابرة إلى حالة عامة، وتحويل الاستثناء إلى أسلوب حياة؟
أتصور أن الإجابة على هذا السؤال المتعدد الصيغ تكمن فى معرفة سر لماذا يكون المصرى فى الجيش غير المصرى فى الشارع؟ عندما يلتحق المصرى بالجيش يعيش حياة النظام والانتظام، والتى تتحول إلى حياة يعيد فيها بناء نفسه حتى يستطيع أن يتكيف مع عجلة الإنتاج والعطاء والبذل والفداء فى الجيش. ولكنه عندما يعود إلى الحياة العامة تجده شخصا آخر! وقل مثل ذلك عندما يذهب إلى أى بلد متقدم، وعندما يعود تجد شخصا آخر. والسؤال كيف يمكن حل تلك الإشكالية؟ المواطن الفعال فى مصر هو المصرى مجندا، فما هو الحل؟
الحل هو البحث عن نظام اجتماعى يقوم على قيم الانضباط الذاتى المستمدة من قيم الجندية المصرية فى حرب أكتوبر. والنظام الاجتماعى لا يُصنع بالمواعظ ولا الشعارات، ولكنه يُصنع بقيم الاقتصاد؛ لأن الاقتصاد هو محرك التاريخ، والانتقال إلى عصر المواطنة الحديثة فى الغرب، كان له أسباب كثيرة لعل من أهمها حركة التصنيع؛ فالتصنيع ينتج نمطا جديدا من القوى المنتجة، وينتج علاقات إنتاج اجتماعية جديدة. والتصنيع يفرض نظاما على الحياة مختلفة عن النمط الاستهلاكي، ويعوِّد المواطن على نمط حياة يومى يقوم على المواعيد الدقيقة، ونظام العمل الصارم، وقوانين جودة المنتج. كما يخلق التصنيع قوى عاملة بشرية بمواصفات مختلفة عن مواصفات الموظفين التقليديين. ويجعل التصنيع طريقة تعامل الناس مع بعضهم البعض اجتماعيا مرتبطة معا فى أنماط محددة بناء على علاقات العمل التعاونى التى تقوم على أشكال جديدة للترابط بين الناس. ومن ثم يحدد التصنيع علاقات جديدة بين الطبقات تختلف عن العلاقة النمطية بين الطبقات فى نمط الاقتصاد الاستهلاكى المصرى السائد.
ويجعل التصنيع طريقة تعامل الناس مع العالم المادى الخارجى تسير فى نظام إنتاجي؛ حيث يجب على الناس أن تستهلك من أجل البقاء، ولكن من أجل الاستهلاك عليها أن تُنتج، وعندما تنتج فإنها تدخل بالضرورة فى علاقات جديدة لها وجود منفصل عن إرادتهم الفردية التى كانت تميل إلى التراخي، وهذه العلاقات الجديدة هى علاقات نظام المصنع والتصنيع التى تُعد النظام المعادل المدنى لنظام الجيش العسكري. ومن هنا, فمن أهم أسباب التغيير الاجتماعى التى تحتاجه مصر تغيير نمط الإنتاج الذى تسير عليه مصر. إن نمط الإنتاج يشكل طبيعة نمط التوزيع، ويحدد أسلوب التداول، كما يحدد أسلوب الاستهلاك، وكلها معًا تشكل المجال العام الاقتصادي. ومن ثمَّ تشكل المجالين الاجتماعى والفكرى للمجتمع المصري. إذن من دروس أكتوبر النظام، واستعادة عقل أكتوبر هو صنع نظام اقتصادى واجتماعى مواز لروح النظام فى الجيش المصري، وهذا لن يأتى إلا بالانتقال إلى النظام الصناعي. الصناعة هى عصب النظام الاقتصادى الحديث، والنظام الاقتصادى ينتج نمطا جديدا من الحياة. وفى هذا أيضا سر ضرورة التحول من نمط الاقتصاد الاستهلاكى إلى نمط الاقتصاد الإنتاجى الذى سوف يتغير معه وجه الحياة فى مصر إذا توافرت لدينا إرادة هذا النوع من التحول.
الدرس الثالث: الوعى بحدود قدراتنا وتحديد الأمل وطريقة الفعل:
من أهم دروس أكتوبر الوعى بحدود قدراتنا وتحديد الأمل وطريقة الفعل، وإذا أردنا الاستفادة من هذا الدرس علينا رسم خريطة عمل يكون واضحا فيها: الوعى بحدود وطبيعة عقلنا، وحساب قدراتنا على الفعل، وآفاق وحدود الأمل الذى يجب أن نتطلع إليه. ماذا يجب علينا أن نفعل.
هذه الجوانب الثلاثة يجب أن تحكم أى خريطة عمل سواء للفرد أو للوطن كما أوضحنا فى مقالاتنا السابقة عن تطوير العقل. ويجب أن يضع كل فرد معالمها فيما يتعلق بشخصه وحده إذا أراد لنفسه تغييرا حقيقيا وتقدما كبيرا فى حياته الشخصية، وأيضا يجب أن يضع معالمها العقل المصرى العام على مستوى الوطن إذا أردنا أن يكون لنا موقع بين الأمم المتقدمة. وفى هذا الإطار يجب استلهام الدرس الذى استوعبناه بعد حرب 67، حيث تسأل القادة: لماذا انهزمنا وانتصرت إسرائيل؟ وكان هذا السؤال هو نقطة البداية فى التفكير الصحيح. واليوم يجب أن نسأل: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟
سؤال قديم جديد، قدم السابقون عنه إجابات شتى، لكنها إجابات تم التوصل إليها مباشرة دون طرح أسئلة ضرورية قبلها، وقد فشلت تلك الإجابات؛ لأنه لم يتم التأسيس لها معرفيا بالقدر الكافي؛ ولأنها لم تكن لها خريطة معرفية تقوم على الوعى بالحدود وحساب القدرات بشكل مقارن مع الأمم الأخرى؛ ولأنها لم تبحث فى المنهج وطريقة التفكير، وأسباب الانتقال من عصر إلى عصر. وكانت معظم الإجابات على هذا السؤال إنشائية تقدم حلولا عامة متسرعة.
إن تطوير العقل العام المصرى لكى يكون عقلا نقديا يفكر بطريقة سليمة، وإعادة بناء الوعى المصرى لكى يكون وعيا حقيقيا وليس وعيا مزيفا، غير ممكن - كما اتضح فى مقالات سابقة - دون معرفة العقل المصرى لـطبيعته وطريقة عمله، وحساب حدود قدراتنا على «الفعل» بعامة حسابا حقيقيا غير مزيف. ولعل هذا يكون خطوة على طريق تغيير طرق التفكير، وتغيير نمط الإنتاج، يعقبهما تلقائيا تغيير نمط الحياة.
لمزيد من مقالات د. محمد عثمان الخشت رابط دائم: