رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

هرباً من الحضارة الغربية والعيش التعس فى أحضانها..
بيار لوتى يبحث عن معارج الروح فى ليالى الشرق

نسرين مهران;

يقف على جبل الحلم، يحمل قيثارته، يرتّل حنينه إليه. للشرق عطر تحتفظ به ذاكرته. كلما ظنّ أنه منه انتهى، يعود فيكتب إليه! يغويه مطر صباحاته، تسبيه شمس فضاءاته.. أصوات المآذن، الأزقة المتعانقة بالألفة.. الأماسى الضاحكة وسهرات البدو فى الصحراء. يطارد الأيام وتطارده الساعات، ثمل من شوق أصاب بعض روحه أو كل وجدانه.

...........

من شرفة بيته المطلّة على المحيط الأطلسى فى بلدة روشفور غرب فرنسا، يجلس الرحّال والروائى بيار لوتّى يتأمل الليل الساكن والموج من أمامه هادئ جداً، تماما مثل ماء للعابر فى الصحراء منعش هذا النسيم. «الصحراء»، يا لها من كلمة ساحرة لها وقع عظيم فى النفس!.. «حلم فضاء لا حدود له.. رغبة فى نسيان الذات..مكان مثالى».

يبحث عن قلوب دافئة حانية، عن ليل مفعم بالحب، عن غروب حالم.. تراقب مآقى العاشق للكون، وتسترجع ذكريات الليالى التى قضاها فى صحراء الجزائر، وسيناء والعقبة «عندما حل ليل النجوم حافظت الرمال على لونها الأصهب ذى النعومة الرائعة، والذى كانت الإبل والأحراش تشكل فوقه باقات من البقع القاتمة، وجلس البدو الذين كانوا بصحبتنا فى حلقة حول نيرانهم، وتصاعدت ألسنة اللهب المضيئة، والدخان الأبيض المثقل بالعطور؛ يتصاعد نحو القبة الزرقاء المسودة حيث كان يمر ضياء الأبراج مائلاً، وحيث تلألأ مجاميع الكواكب كما لو أنها تقترب من الأرض، أو تتجلى من خلال مرايا مكبرة.. عند ذلك شرعت القرب (الربابة) بالعويل، وصدر الصوت المبحوح للمجموعة محبوساً خافتاً، إنها موسيقى لا عمر لها كتلك التى كان يؤديها حتماً الرعاة البدائيون هنا، والتى كانت ترتعش مترددة واهنة فى صمت كبير».

يقبض على جمر لهيبه.. يملى للأفق كلمات ويحمّلها للطير، لعلّه ينشرها على صفحات العمر الآتى.. لعلّ الريح يحتضنها ولا يبعثر حروفها النسيان والجفاء. كلمات أسفرت عن ميلاد نحو خمسين كتاباً. مؤلفات ما بين الروايات وكتب أدب الرحلات، كتبها بحبر سريّ لا يقرؤها ولن يستطيع إلا من امتلأ قلبه بالحبّ المستحيل، منها: الخائبات، سراب الشرق، الصحراء، فى المغرب، القدس، الجليل، نحو أصفهان، انعكاسات الطريق المعتم، آخر أيام بكين، الهند بدون الإنجليز،.. لكن تظل «آزيادة» هى أولى رواياته الأدبية وأشهر أعماله على الإطلاق. كتبها عام 1879 بعد إقامته لردح من الزمن فى اسطنبول التى كان مفتونا بها، وقال فى شأنها: «هذه المدينة لها ظل متفرد أكثر شأناً من أى مدينة علـى وجـه الأرض». وفيها يحكى قصة حب نشأت بين ضابط إنجليزى وسيدة تركية فى عاصمة الخلافة العثمانية. لم يكن غريباً أن تنتهى بموت الحبيبين، عادة كانت قصص الحب فى روايات لوتى مستحيلة بسبب الاختلاف بين الثقافات فى الشرق والغرب.

زاوية دافئة

اكتبى يا نفسى وحلّقى يا ريشتى.. يرفض الواقع الساكن فيه، مدركاً أن الشمس لا تشرق من الغرب. لم تأت كتابات الرحّالة الفرنسى عن قصص الشرق والبحر والتوق إلى البعيد صدفة. لكنها هرباً من الحضارة الغربية والعيش التعس فى أحضانها. كلما انتابه الشعور بالقلق من الحداثة التى تعتنقها حضارته كان يغلق سراديب الخوف من القادم.. من الحاضر.. من اللا شيء.. ويبحث عن حلمه فى زمن آخر.. فى مكان آخر.

بات البحر يرطّب جفاف روحه بنوارس تقفز حينًا وتطير حينًا، وهو يحلّق معها بجناح الشوق إلى بلاد الشرق التى عثر فيها على زاوية دافئة حيث أجواء الهدوء والدعة. يتأمل ضوء القمر وهو يداعب أمواج البحر «كنا نمكث كثيراً الواحد تلو الآخر، ننظر إلى بعض... كان لدى حدس كبير أن البحر سينجح فى أن يأخذنى إليه».

جال بيار لوتى (جوليان فيو) العالم بكامله من إفريقيا إلى ضفاف البوسفور، ومن الشرق إلى تاهيتى. جولاته بدأت مبكراً منذ كان عمره 17 عاماً حين التحق بالمدرسة البحرية فى برست، حتى بلغ رتبة نقيب. شارك فى حملات كثيرة فى السنغال وفى المحيط الهادى، وكان ضمن الكتيبة التى أُرسلت إلى الشرق الأقصى لقمع الاضطرابات فى الصين عام 1900. اسمه كان مدرجا ضمن قائمة الاحتياط، لذا عاد إلى الخدمة أثناء الحرب العالمية الأولى. غير أن رحلاته العديدة أسفرت عن اكتشاف زهرة تنمو فى مناطق المحيط الهادى، وقد اتخذ الكاتب اسمه المستعار الأدبى «لوتى» منها.

يكمل لوحته بفوضوية التعاريج.. يرسم الحروف على حافة المرافئ التى تموج وتموج.. وفى آخر المطاف، يعود إلى «روشفور» التى قال عنها: «هذا المكان من العالم الذى أضل وفيا له طوال حياتى.. لدى حنين لهذا المكان وللأمكنة الأخرى».

الرحيل إلى الذات

القلب الذى اعتاد الرحيل والهجران - بدون جواز سفر ولا بوليصة تأمين- لم يستهويه الاستقرار. لكن خريف العمر دفعه لقضاء كل لياليه وأيامه بين حيطان دفأها الحب. ولعه بالشرق جعله يجمع حلمه المتناثر الممزوج برائحة الفقد والاشتياق. فقد كان الرحّال الفرنسى حريصا جدا على اقتناء التحف والملابس والأشياء النادرة التى بات يحملها معه دائما إلى مسقط رأسه. هذه المقتنيات الثمينة جعلت بيته فى بلدة روشفور الساحلية يتحوّل - بعد وفاته عام 1923- إلى متحف متنوع يشعر داخله الزوار بالانتقال إلى عالم آخر أكثر غموضا وجاذبية.

البيت المكون من طابقين يحتوى على غرفة ذات طراز معمارى عربى، وصالون تركى، ومسجد، وغرفة ذات طراز معمارى قوطى.. إضافة إلى مجموعة من الكنوز الشرقية والأسلحة والمفروشات والصمديات التى جمعها المؤلف طوال حياته خلال أسفاره. حتى إنه فى عام 1894 حين كان يزور دمشق، لم يتردد فى شراء سقف من سقوف مسجد الأمويين الذى نجا من حريق مهول. وأتى بهذه القطعة الأثرية النادرة إلى فرنسا، ليزيين بها «قاعة الشرق».

يعتكف فى تلك الغرفة، حيث يهيم بين الذكريات ودخان النارجيلة، متكئاً على وسادات شرقية التى أعادت خياطتها ببراعة أمه وخالاته. فى هذه الغرفة الشاعرة الخرساء كان يسهر كل ليلة لعلّ عيون ليلى العربية تطل على دفاتره. مشغول البال، شارد الفكر.. دائما يتساءل: «ولا أدرى بحكم أى وراثة أشعر دائماً أن شطراً من روحى عربيـة!». الحب فى شرعه كأجنحة يسمو بها العشّاق للأرقى نحو سماء عربية حرة الخواطر.

على بعد خطوات من غرفة المسجد، أسس لوتّى مكتبة ثرية بالكتب الأجنبية المتنوعة، أطلق عليها «بيت المومياء» نسبة إلى ذكرياته المصرية التى تزخر بها هذه المكتبة والتى كانت مصدر افتخار له. بينما يستوقفك فى غرفة نومه البسيطة البيضاء والمجردة من كل شيء دولاب مليء بالأزياء الراقية والمطرزة مثل البرنوس، والقفطان، والكيمونو، والسارى.. كل لباس له ذكرى، وكل ذكرى لها صفحات فى كتبه.

فى آخر أيام البحّار الشاعر، لا شيء يملأ الفراغ سوى قمر مسافر ودخان نرجيلة يعبئ البيت. ذات حين يخبئ شجونه ويتأبط وحدته. لقد ذاق من الأيام حلوها وغربتها. غربت الروح بعد أن رحل الموج عن شواطئه وكأن البحر ما عادت مراكبه. وبقيت صفحاته تفصح عن طلاسم عشق دُفنت مفاتيحها فى أعماق البحار.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق