رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الأهرام 144 سنة.. ســيرة وطن وجـريدة

أسامة الرحيمى

بعد موافقة «الخديو إسماعيل» على ترخيص «جريدة الأهرام» بناء على التماس تقدم به «سليم تقلا» السورى لإنشاء مطبعة الأهرام، وصفها الترخيص بأنها: « صحيفة إخبارية وأدبية وعلمية لا شأن لها بالسياسة». واتخذت الجريدة مقرا لها فى شارع البورصة المتفرع من ميدان القناصل (المنشية)، أمام بنك الرهونات بالإسكندرية، التى كانت تعج بالأوروبيين والشوام، كأحد المراكز التجارية المهمة على المتوسط، ولاحقا انتقلت إلى القاهرة فى 3 نوفمبر 1900، كان مقرها فى شارع مظلوم بوسط المدينة، ومن بعده انتقلت إلى مقرها الحالى بشارع الجلاء فى 1 نوفمبر 1968.

وكان «سليم تقلا» أول رئيس لتحريرها (من 1876 إلى 1892)، قد تعهد وقتها «بعدم الخوض مطلقا فى الشئون البولوتيقية» (السياسية)، لكنه لم يستطع الوفاء بتعهده، ما عرّضه للصدام مع السلطة. وتلاه شقيقه الأصغر «بشارة تقلا»، وكانا يريان فى الصحافة «رسالة ووظيفة تأبى على حاملها أن يزل فى لفظ، أو يخطئ فى تعبير»، وبقيا حريصين على «عدم الطعن فى الأشخاص والهيئات، وتحرى الدقة فيما ينشر».

وصدر عددها الأول فى أغسطس 1875، وكان مُكوّناً من ورقة واحدة، مقسمة إلى وجهين، وعلى أربع صفحات، حجم الصفحة 43 سم رأسيا، وعرضها 30 سم، وتصدّر صفحتها الأولى رسم صغير لأهرامات الجيزة التى استمدت اسمها منها، وفوقها هلال ونجمة. وكُتب تاريخ العدد الأول «5 آب» (أغسطس) فى منتصف أعلى الصفحات، والعام (1876) على اليسار، ورقم العدد يمينا. ولم يتم ترقيم الصفحة الأولى، بخلاف الصفحات الثلاث الأخرى. وقُسمّت الصفحات إلى فقرات كل منها على ثلاثة أعمدة، تفصلها خطوط بزخرفة خفيفة، والخط أقرب للرقعة، وبعض الحروف مُشكلّة. واستخدمت «فونط» كبيرا، ولاحقا استخدمت «فونط» أصغر لنشر أكبر كم من الموضوعات.

وبقيت أسبوعية، تصدر يوم السبت من كل أسبوع، ثم الجمعة بدلا من السبت، لأسباب تتعلق بتوزيعها فى الشام، ولخمس سنوات تقريبا، ثم باتت يومية الإثنين 3 يناير 1881، وحمل العدد رقم (1003)، ويُفسِّر المؤرخ د.»يونان لبيب رزق» فى كتابه «الأهرام ديوان الحياة المعاصرة» الرقم بأنه تسلسل جريدة الأهرام الأسبوعية، بتعداد جريدتيّ «صدى الأهرام» الأسبوعية، و»الوقت» اللتين أصدرهما الأخوان تقلا. وبعد خمس 5 سنوات تقريبا تحولت إلى يومية، لتصبح أقدم صحيفة عربية مستمرة من وقتها إلى الآن. وتعطلت عدة مرات عن الصدور، منها يوم الخميس (28 محرم 1298هـ 30 ديسمبر 1880) بعد 232 أسبوعا من صدورها، كانت إحداها بسبب مقالة كتبها «بشارة تقلا» بعنوان «ظلم الفلاح» حيث رأى الظلم المحيط بالفلاح، وأرسل «الخديو إسماعيل» بعض الجنود للقبض على «سليم تقلا»، ثم عاودت صدورها بسرعة يوم الاثنين (1 صفر 1298هـ 3 يناير 1881م).

وفى عددها الأول، الذى يستحق بعض التأمل، لعفويته وطرافته، وطموح ريادته، ناشدت الأهرام: «أصحاب الأقلام البليغة أن يُزيّنُوا من وقت لآخر الجريدة بما يسطرونه من بديع الكتابة والحكم والفوائد التى يلتذ باجتنائها كل ذى ذوق سليم»، وتمنى «سليم تقلا» وشقيقه «بشارة» كسب الأهرام «قبول الجمهور، وتحقيق التقدم الصعب»، ودعيا «أولى الغِيرة والهمّة لمد يد المساعدة الأدبية».

واهتما بنقيصة «الإغراق فى حب الذات»، كونها «عادة فى البدن لا يغيرها إلا الكفن». وكيف تؤذى صاحبها والمحيطين إذا لم تُمارَس باعتدال. وحاولت الجريدة الإلمام بما تيسر لها من «الأخبار البرقية الواردة إلى الإسكندرية» كونها أسبوعية، ومنها «سيطرة العساكر الشاهانية (الأتراك) على مجموعات متمردة فى الهرسك». وتنقّلت الجريدة بين ما يدور فى «مجلس نواب الأمة فى إنجلترا»، وواقعة طلب أعضاء الشورى الإنجليزى انسحاب بريطانيا من اتفاقية «باريز»، التى تُلزم إنجلترا بعدم الخروج بالمراكب التجارية عن مياهها الإقليمية وقت الحرب.

واستخدمت الأهرام هوامش الصفحتين الثانية والثالثة، لكتابة سبب اختيار «الأخوين تقلا» لأسم «الأهرام»، وتاريخ أهرامات الجيزة، وفق أقوال المؤرخين وأصل كلمة «بيراميد»، وتعنى «قبو الموت» فى اللغة القبطية أو العبرانية، كما يرجعها البعض.

واحتراما لقارئها من اللحظات الأولى، نشرت الدعاوى القضائية أمام «المجالس الحقانية» (المحاكم) بدون أسماء الأشخاص الحقيقية، واستبدلتها بأسماء رمزية، كما أطلقت اسم «زيد» على تاجر من الإسكندرية رفع دعوى ضد زوجته يطالبها برد بعض أمواله.

وأوردت «الأهرام» رسالة من طالب أزهرى اسمه «على أفندى مظهر»، يشيد بإنشاء الجريدة، قائلا: «قد حصل الاستبشار بمشروعكم الجليل وقوبل بالممنونية والشكر الجزيل»، وأورد عنه د. «مرعى مدكور» فى كتابه «صحافة الأدب فى مصر»: فقد نشر العدد الأول للأهرام رسالة موقعة باسم الفاضل الأديب «على أفندى مظهر»، قال فيها بعد أن رأى مثال الأهرام: «إنه يحق لكل أديب أن يسر من الاطلاع على مثال جريدة الأهرام التى هى بلا ريب من أجَلّ مآثر هذا العصر الذى أشرقت فيه شموس التمدن فى مصر».

وعلى يسار الصفحة الثالثة، نشرت إعلانين، الأول لمكتب ترجمة جديد لصاحبيه «إبراهيم عرب وحنين خورى»، والثانى عن المحامى «دوفنسيكه بيمونتل» واستعداده للترافع فى كل الدعاوى أمام المجالس العربية والأفرنجية، والترافع مجانا فى دعاوى «الفقراء».

وضمت الصفحة الأخيرة نادرة عن فتاة إنكليزية قطعت مسافة طويلة على شواطئ لندن. وبيان زيادة منسوب نهر النيل فى 1876مقابل العام السابق، إضافة إلى أسعار صادرات وواردات القطن، والقمح، والفول، والبذور. بجانب حوادث محلية. وخصص تقلا العمود الأخير للحديث عن مطبعة الأهرام الجديدة، المستعدة لطباعة «الكتب العملية والأدبية والقصص والنوادر وخلافها»، واعدا القراء بطباعة صحيفة يومية بالعربية الفصيحة شريطة زيادة عدد المشتركين لدى وكلاء الأهرام الثلاثة وعشرين الموجودين فى الدول العربية.

وهنا يجب القول، أن البعض ذهب إلى أن ظهور الصحافة، فى تلك الفترة، قضى على ما يسمى «الكتابة الإخبارية»، التى كانت تقوم على رصد الوقائع وفقا لتسلسلها الزمنى، وتسجيلها فى كتب، وقيل أن آخر كتابين فى هذا المجال سبقا صدور الأهرام بقليل، وهما «الكافى فى تاريخ مصر القديم والحديث» لـ «ميخائيل شاروبيم»، و«حقائق الأخبار فى دول البحار» لـ «إسماعيل سرهنك»، فجاءت الصحافة لتنهض بهذا الدور الإخبارى، وتحل محل الكتب فى الرصد والتدوين، كما فعلت الأهرام عبر عقود مشحونة بالوقائع، وربما لهذا وصفها العظيم «طه حسين» بـ «ديوان الحياة المعاصرة» الذى استخدمه لاحقا الدكتور «يونان لبيب رزق» فى صفحته الأسبوعية بجريدة الأهرام، فى التأريخ لأحداث مصر، من خلال التغطيات الصحفية للجريدة العريقة، وجمعها بعد ذلك فى كتابه الذى حمل نفس الاسم، واشتهر بمصداقيته، ما يعنى أن الأهرام صحيفة حملت على ظهرها تاريخ بلدنا السياسى من صدورها إلى الآن، وإن أصابها بعض الوهن أو الضعف أحيانا. لكنها تظل ديوانا لأحداثنا التاريخية والاجتماعية المهمة إلى حد كبير.

وبعد سنوات شهدت صفحات الأهرام مقالات لأهم كُتَّاب مصر، وتشكلت أول صفحات الرأى فى الصحافة العربية، وكان أول كُتَّاب الرأى فيها الطالب الأزهرى «محمد عبده» الذى ذاع صيته لاحقا، وبات الإمام الشهير، وانطوت مقالته تلك على مقارنة بين أهرامات الجيزة التاريخية العظيمة، والجريدة الناشئة، ولم تخل إشادته من مبالغة، وقد قال فيها: «يالها من جريدة أرست قواعدها فى القلوب وامتدت لتكشف الغيوب، والفارق كبير بين أهرام خوفو وأهرام الصحافة، تلك أهرام وأشباح، وهذه غذاء للأرواح، تلك مساكن وأموات وهذه لسان السموات»، واهتم الإمام كثيرا بالتعاون فى تحرير الأهرام خلال سنتها الأولى، وبقى يصل وده بها لفترة طويلة، إلى أن أصبح صحفيا محترفا فى الوقائع المصرية جريدة الحكومة الرسمية. وكانت بداية الشيخ محمد عبده مع الأهرام من عددها الخامس، وبدأ بمقالة أدبية أعقبها بعدة مقالات مزج فيها السرد بالحوار.

ومن كُتَّاب الأهرام الأُوَل «أمين وشبلى شميل»، وقد عُرف «أمين شميل» أحد أدباء عصره فى بداياته عن طريق الأهرام، وكان وثيق الصلة بـ «سليم تقلا»، وكتب أبياتا يشيد بالأهرام قال فيها:

مصر أهرامها كنوز بناء ....... وبهذى قامت كنوز معان

إن تكن تلك آية العصر قدماً....... فبـذى آية لكل زمانِ

وكل ما كتبه «أمين شميل» فى الأهرام كان شيئاً جديداً على عصره سابقاً لجيله، وأتاحت له الأهرام صفحاتها، حتى إنه كتب بمفرده أول ملحق أصدرته الأهرام فى تاريخها، وناقش فيه خصومه الأدباء وعلى رأسهم «أحمد فارس الشدياق»، وغيره من أساطين البيان، ومن أمتع آثار «أمين وشبلى شميل» المجادلات البديعة التى ساهما فيها، وكان معهما «أحمد سمير «، و«نجيب غرغور» و«إسكندر نحاس» وغيرهم، وأول من ابتدع هذا الموضوع كان «عبدالله النديم» وقال فيه إن «حفظ الذات حفظ للّغة»، فرد عليه أمين شميل بمقال عنوانه «حفظ اللغة لا يكون إلا بحفظ الذات».

ومن الأدباء الذين اكتشفتهم الأهرام فى بداياتها أيضا «عبده ميخائيل بدران» الذى عمل محرراً بالأهرام ونشر فيها إنتاجه الأدبى، وكان أديباً خلف لنا ثروة قصصية طيبة بما نشره من قصص أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، وهناك أيضاً الشيخ «عبدالكريم سليمان» أحد علماء الأزهر، ونشر أولى مقالاته بالأهرام 16 مارس 1877، وكانت مقالاته بالأهرام أول ما كتبه فى الصحف، وكانت بداية حسنة، حيث اختاره الإمام «محمد عبده» ضمن نخبة منتقاة لمعاونته بتحرير «الوقائع المصرية» حين تولاها أكتوبر 1880. كما كان الشيخ «جمال الدين الأفغانى».

من أبرز من كتبوا للأهرام، حيث أحدث حراكاً وحيوية فى الثقافة العربية بمقالاته، والأديب «عبدالله مسعود»، و«عبدالله النديم»، و«محمد المويلحى»، و«أحمد لطفى السيد» أستاذ الجيلين، وفيلسوف الحياة المصرية، و«محمود سامى البارودى» شاعر السيف والقلم، وبعده أحمد شوقى الذى خلع عليه الأهرام لقب «أمير الشعراء»، ثم «مصطفى لطفى المنفلوطى» صاحب البلاغة والأسلوب الساحر، والمدافع عن الحق «توفيق دياب»، واستمرت الأهرام فى الاحتفاء بكتابات كبار الأدباء فى العصور اللاحقة.

وفى 1881. فى عصر الخديو توفيق، حين عادت الأهرام للصدور بعد توقف قصير بسبب انتقادها الخديو إسماعيل، كان الأدب ملاذها الآمن بعيداً عن مزالق السياسة، فاستكتبت العديد من الأدباء مثل «رشيد شميل»، و«سليم حداد»، و«ريدة سعادة»، و«عبده بدران»، و«خليل مطران»، واحتفت بقصائد «أحمد شوقى» وكانت تقدمها بقولها: إنها للشاعر الألمعى والكاتب الأديب اللوذعى أحمد بك شوقى. واهتمت بكتابات «شكيب أرسلان» و«سعيد البستانى»، ونشرت روايات مسلسلة أسهمت فى بناء القصة فى مصر تأليفاً وتعريباً، ومع انتقالها للصدور فى القاهرة بدءاً من الأول من نوفمبر 1889، زادت تغطيتها الأدبية، بقصائد «حافظ إبراهيم» والإمام «المراغى»، ومطران.

وطوال ثلاث سنوات أسهم الزعيم «مصطفى كامل» بدور مهم فى الأهرام بمقالات بأسلوب أدبى رفيع، وأفكار سياسية حماسية، وكان يميل عادة للاستشهاد بالشعر فى مقالاته، وفى عددها الصادر فى 14 يوليو سنة 1893 نشرت له الأهرام مقالة بعنوان «البحر» قال فيها:

أُوَّدعُ أوطاناً يسوءُ وداعُها..... وأتركُ أمصاراً يَسُرُّ لقاؤها

وأركب بحراً برَّه موطنُ الندى...... وأمـته عمَّ البـلادَ سخاؤها

ألا أيها البحر العظيم بنا اتئدْ...... فمصرُ تجلَّى للعيون بهاؤها

كما أفسحت جانبا لمقالات «جمعية الأحباء» التى كان يرأسها الفنان المعروف «يعقوب صنُّوع» وكانت تهتم بالتربية والتعليم. وتوخَّت الصحيفة الشابَّة عموما فى صياغاتها أسلوبا أرصن وأسلس من كافة الصحف المزامنة لها، وأقرب لأفهام القراء، بعيدا عن الإنشائية التى كانت تُثقِل الأخبار، وتُضيِّعها من القارئ بحمولة لغوية من السجع وما شابهه، وساعد على هذا امتلاك «سليم وبشارة تقلا» ثقافة فرنسية، وعربية كبيرة، مما جعلهما يختطان للأهرام نهجاً جديدا فى الكتابة الصحفية، مناسبا لسرعة الأحداث، وإيقاع الحياة الذى شهد تطورا صناعيا متلاحقا، وتنوّع القراء فى مجتمع كوزموبوليتانى يعج بجنسيات متعددة.

وابتكرت فى وقت مبكر (عام 1879) فنونا لم تكن معهودة حينها فى الصحافة المصرية، مثل الحوار، وكان أبرزها حوارا أجراه «بشارة تقلا» مع «الخديو إسماعيل» الذى غيَّر نظرته السيئة للصحافة، والتى كان يعُدها «حرفة دنيئة». كما قدم «بشارة تقلا» أول «استطلاع صحفى» فى بلاد الشام، حيث كتب تغطية لرحلته هناك عام 1880.

وهنا يستوقفنا للحظات ما جاء فى كتاب الدكتور «إبراهيم عبده» «جريدة الأهرام تاريخ وفن (1875: 1964)» حيث جاهد الأدباء وتحدوا الصعاب والأزمات المالية الطاحنة التى عاشتها الصحافة فى نشأتها حتى استطاعوا نشر هذه الصحف فى المجتمع، بعد أن نجحوا بجهدهم فى تذليل كل الصعاب التى واجهتهم، ومن هذه الفئة كان «سليم تقلا» مؤسس صحيفة الأهرام، وكانت الميول الأدبية لتقلا تطغى على أسلوبه وكتابته، فصنع بكتاباته متلقيا جديدا أكثر ثقافة.

وسرعان ما فهم القارئ طبيعة هذا الكاتب الذى بذل جهوداً كبيرة - لا مجال هنا لذكرها - حتى صدر العدد الأول من الأهرام، فلم يكن القارئ يداخله شك فى أن سليماً كان ذا أسلوب عربى يضارع فى جماله أسلوب أئمة الكتاب، مع أنه كان أديبا رائع البيان فى فنيّ المنظوم والمنثور، وكان الاهتمام الأكبر لسليم وشقيقه بشارة تقلا هو الأدب، فقد كانا بارعين فى الكتابة الأدبية، وعملا على جذب القارئ بواسطة الأدب، ولم يختلف أحد على روعة كتابات سليم، أما شعره الذى كان ينشره بالأهرام فكان رصيناً رقيقاً، فيه صور براقة ومعانٍ رقيقة، فقد قال يصف أساطيل حربية:

تلك الأساطيل فوق الغمر سابحة... والغمر منها كسهل وهى كالقللِ

تهابها الجن ثم الإنس من بشر.... والنسر فى الجو مثل الحوت فى الوشلِ

أما بشارة تقلا الذى انفرد برئاسة الأهرام بعد وفاة شقيقه سليم عام 1892، فقد اختلف المؤرخون حول أدبه وأسلوبه، حتى إن صديقه خليل مطران لم يعطه حقه حياً، فأثنى فى تحفظ ملحوظ على أسلوبه سواء شعراً أم نثراً، فليس الصحفى مطالباً بأن يقرض الشعر قرضاً ينافس به الشعراء المهمين، بل ليس الصحفى مطالباً بأن يقرض الشعر حتماً، وإنما يكفى أن يسيغه ويفهمه ويتأثر به، ويؤثر فيه إن أراد النقد والإصلاح.

وكانت هذه البداية الرائعة للأهرام سبباً فى إشادة الأدباء بها، وكان ذلك منذ العدد الأول بعد أن أصدر الأخوان تقلا مثال الجريدة (العدد التجريبى) الذى نال إعجاب الأدباء.

ومن الطريف أن أصبح للأهرام طبعتان، إحداهما يومية فى القاهرة، والثانية أسبوعية فى الاسكندرية. وكان للأهرام سبق نشر صورة فوتوغرافية فى صفحته الأولى ويتميز عددها 152، حيث تصدرت صدر صفحتها الأولى، وللمرة الأولى، صورة كبيرة لـ «الخديو توفيق»، وتكرر الأمر بعدها بصورة لـ «فرديناند ديليسبس» مهندس قناة السويس، واعتبره البعض وقتها خروجا من الجريدة عن وقارها، إذ كان الاعتقاد آنذاك أن نشر الصور خروج على أصول الرصانة والوقار. لكن نشر الصور أصبح عاديا، بل ضرورة صحفية، ثم حدثت نقلة نوعية هائلة بعد ذلك بعدة عقود، فى نقل الصورة بالراديو، حيث استخدمها الأهرام لأول مرة يوم31 مايو1943ونقلت من لندن إلى القاهرة، وكانت لسفير مصر وهو يقابل سفير تركيا.

وفى 1882، إبّان الثورة العرابية، ولأن الجريدة كانت ممالئة للخديوى توفيق ضد الثورة، أحرق الثوار مطابعها, وكانت «صدى الأهرام» الأسبوعية وقتها تطبع أكثر من عشرة آلاف نسخة، تُوزع على نخبة المجتمع المصرى.

ولتشدد العرابيين فى موقفهم ضد «سليم تقلا» اضطر للعودة إلى جبل لبنان، مثل كل الشوام الذين عادوا الثورة علانية، وغادروا الاسكندرية إلى مناطق أخرى فى مصر وسوريا، وبعد انكسار العرابيين, واحتلال الإنجليز لمصر عاد «سليم تقلا» إلى الاسكندرية ووجد مطابع الأهرام محروقة, وأصدر الأهرام مجددا، إلى أن نقلها إلى القاهرة. والعجيب أن الأهرام هاجمت الاحتلال الإنجليزى فى (ربيع أول 1301هـ ــ يناير 1884)، وجاهرت برفضها إخراج الجيش المصرى من السودان، فعوقبت بالتعطيل لشهر. لكنها عاودت الصدور إلى يومنا هذا، لتعدّ أقدم صحف العالم الثالث كله، ومن أعرق صحف العالم.

وفى تلك الفترة أيضا، لعبت دورا فى مساندة أعضاء «مجلس شورى القوانين» الذين رفضوا «ميزانية الدولة» عام 1893، وهو أول دور رقابى كان يمارسه البرلمان المصرى على الحكومة فى ظل الاحتلال الإنجليزى، وهى شجاعة تحتسب لأصحاب الجريدة وقتها لما فيها من مخاطرة. ولاحقا ناصرت الزعيم «مصطفى كامل»، وفتحت صفحاتها لمقالاته الحماسية، كما لم تخف بحال موقفها ضد مخططات الإنجليز فى تمديد امتياز قناة السويس، وفرْنَجَة التعليم المصرى، وناصرت «ثورة 1919»، واعتبرها أصحابها جريدة لكل المصريين، وأوسعت صفحاتها للمقالات الوطنية، بعيدا عن التصنيفات الحزبية.

وفى الوقت ذاته استجابت لمناشدة الكاتب المعروف «أحمد حلمى»، جد الشاعر الكبير «صلاح جاهين»، وغطَّت باستفاضة مشكلة الزعيم «محمد فريد» الصحية فى ألمانيا، ثم مسألة وفاته، واسترداد جثمانه على يد ونفقة التاجر الوطنى الحاج «خليل العفيفى»، الذى تمكن من إنجاز تلك المهمة رغم العديد من المصاعب، وغطَّت وصول الجثمان إلى ميناء الاسكندرية، وكان الأمير «عمر طوسون» على رأس اللجنة الوطنية التى تشكّلت لاستقبال جثمان الزعيم، وكانت تغطية الأهرام للحدث هى الأوفى.

وضاعفت الأهرام عدد صفحاتها، بعد الحرب العالمية الأولى، وتشبها بوكالات الأنباء العالمية، بادرت لأول مرة، وقبل جميع الصحف المصرية، بإنشاء شبكة مراسلين لها فى أنحاء متفرقة حول العالم، للتوسع فى معالجة كافة الموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التى تهم الدولة والمؤسسات والأفراد، وتقدمت الجميع باستعمال أحدث ماكينات الطباعة عام 1920.

وانصب اهتمام الأهرام الأكبر منذ نشأتها على الأخبار الخارجية، أكثر من الأحداث المحلية، وربما كان سبب ذلك إلى اعتمادها 12 وكيلا لها فى 12 مدينة بأنحاء الشام، بينما كان مراسلوها فى مصر 6 فقط.

وامتازت بإطلاق كثير من الألقاب على الشعراء والأدباء، حيث وصفت شوقى بـ «أمير الشعراء» بعد نشره إحدى قصائده على صفحتها الأولى، ونعتت حافظ أفندى إبراهيم بـ «نابغة الشعراء»، ونال العظيم «طه حسين» مديحا على صفحة كاملة بعنوان «تكريم أديب يرفع شأن الأدب العربى».

ولم تكتف الأهرام بالشعراء بل حرصت على استقطاب مشاهير الأدباء للكتابة على صفحاتها، مثل الدكتور محمود عزمى الذى كان يراسلها من لندن، وفكرى أباظة، والدكتور محمد حسين هيكل، وأحمد أمين، وكانت مقالة عباس العقاد تنشر فى الصفحة الأولى، والأهرام كان يبيع أكثر عندما يكتب ويهاجم، كما كان أثر خليل مطران كبيراً على الأهرام رغم قصر رئاسته لتحريرها (عام واحد)، وكانت مقالات فكرى أباظة الساخرة ترفع مبيعات الأهرام، إلى جانب مقالات سلامة موسى العميقة، وإبراهيم المصرى، وعمود «أحمد الصاوى محمد» الشهير «ما قل ودل»، ومقالات أنطون الجميل.

ويذكر أن الأهرام نشرت إعلانا غير مسبوق لمسابقة أدبية فى صفحتها الأولى بعدد 22 يناير 1928، فلاهتمامها بالأعمال الأدبية الجيدة واكتشاف المواهب الجديدة، أعلنت الأهرام عن مسابقة فى ترجمة عشر قصائد لشوقى إلى الإنجليزية والفرنسية، وأنها ستنشر ملحقاً خاصاً يضم القصائد المترجمة الفائزة مع صور الفائزين، فى فترة تولى «أنطون الجميل» رئاسة تحرير الأهرام، وكان يتمنى أن يكون الصحفى أديباً، وانعكس هذا على أسلوب إدارته للصحيفة.

وكتب ذات مرة: «إن حملة الأقلام فى القطرين الشقيقين كالشدياق والبستانى وسليم ونديم وتقلا والحداد وأديب إسحق وعلى يوسف ومصطفى كامل وولى الدين يكن، وغيرهم ممن كانوا من مؤسسى الصحافة العربية كانوا أركان النهضة الأدبية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، ومن يكتب تاريخ الصحافة عندنا يكتب تاريخ الأدب فى تلك الحقبة من الزمن».

ولاحقا شهد الأهرام تطورا ملحوظا فى عهد «جبرائيل تقلا»، واستخدامه أرباح الأهرام فى شراء أحدث المطابع، وتجديد الصحافة شكلا وموضوعا وطباعة، حتى قيل عنه: «كانت الأهرام تسبق الصحف الأخرى بعشر سنوات، وكان تقلا باشا يسبق الأهرام نفسها بمائة عام». ويُذكر له أنه:» وضع للأهرام عددا من التقاليد ما زالت تسير عليها حتى الآن، منها أن تكون جريدة لجميع المصريين وليست جريدة سلطة أو حزب، ولا تهبط فى خصومتها إلى حد الإسفاف والقدح الشائن» امتدادا لمبدأ كان «سليم تقلا» يوصى به كل محرر جديد: «إذا رأيت كلمة تقولها يخسر معها شخص قرشا وتربح الأهرام آلافا، فلا تقلها، ولو خسرت الأهرام فوق الربح المنتظر أضعافا».

وعقب تولى «محمد حسنين هيكل» رئاسة تحرير الأهرام فى الخمسينيات، شهدت الجريدة مرحلة جديدة فى الثقافة والأدب، فقد حرص على جلب كبار المبدعين والكتاب إلى الأهرام، فجاء الدكتور لويس عوض من الجمهورية ليؤسس ملحق الجمعة، الذى قال عنه الأديب الكبير «يوسف إدريس» فى مقال له بالأهرام (20 سبتمبر 1989): «إن الدكتور لويس عوض واحد من أعظم مفكرينا العرب فى كل التاريخ العربى، ومقالاته النقدية وآراؤه مهما اختلف البعض هى أنوار متلألئة على طول الطريق إلى نهضتنا الحديثة».

وقام هيكل بتعيين «توفيق الحكيم» ناقداً ومستشاراً ثقافياً للأهرام، ونجيب محفوظ كاتبا، والدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، والدكتور حسين فوزى، وأحمد بهجت، وسليمان جميل، ولحق بهم يوسف إدريس، وعبدالرحمن الشرقاوى، وغيرهم، وبات ملحق الجمعة، ومقالات المبدعين، وصفحات الرأى منارات إشعاع، تضئ عقول وحياة المصريين، وارتقى إسهام الأهرام الثقافى من المستوى المهنى، إلى الدور القومى والمسئولية الوطنية.

وبنظرة إلى أيام الأسبوع تجدها أصبحت مثل الفوانيس الباهرة فى حياتنا، بمقالات كبار الكتاب كانت على مدار الأسبوع، فمثلا السبت للدكتور حسين فوزى، والأحد نجيب محفوظ، الأثنين توفيق الحكيم والثلاثاء زكى نجيب محمود، والأربعاء دكتور لويس عوض ثم عبدالرحمن الشرقاوى، والخميس الدكتور مصطفى محمود ومحمد سيد أحمد، وكان ملحق الاهرام يوم الجمعة قبلة لمعظم كتاب الكبار. كما أسس توفيق الحكيم صفحة «دنيا الثقافة» (أكتوبر1978)، لتبدأ مرحلة الصفحات الأدبية بالأهرام، لإضافة المستوى الخبرى والمهنى للصحافة الثقافية والأدبية، ليجيء دور الأساتذة سامى خشبة وفاروق جويدة وعبدالعزيز شرف وسامح كريم وبهاء جاهين وسناء صليحة امتدادا للمدى الثقافى الكبير الذى تمتعت وتميزت به الأهرام.

وللحقيقة لم يقتصر دور «محمد حسنين هيكل» على المهنى والثقافى فقط، بل كان دفعا كبير باتجاه ترسيخ دور الأهرام كمؤسسة ضخمة، قابلة للتطور والنمو بشكل هائل وغير مسبوق، فبانتقالها إلى مبناها فى شارع الجلاء ( فبراير 1968) شهدت توسعا كبيرا وتدعيما لوجودها المؤسسى، وأنشأت عددا من المراكز المتخصصة، مثل «مركز الأهرام للإدارة والحاسبات الإلكترونية» (أماك)، و«مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية» (1968)، و«مركز الميكروفيلم» (مارس 1969) لحفظ أعداد الأهرام منذ نشأتها، و«مركز الترجمة والنشر» (1975) الذى استخدم 14 لغة فى جميع فروع المعرفة، واعتمدته «الأمم المتحدة» ومنظماتها لترجمة وثائقها ودراساتها، إضافة لعدد من المؤسسات التجارية، مثل «وكالة الأهرام للإعلان» و«مطابع الأهرام التجارية».

وافتتاح مبنى الإصدارات الجديد فى شارع الجلاء (1993). وأصدرت المؤسسة عددا لافتا من الجرائد والمجلات، منها الأهرام المسائى، والأهرام ويكلى (الإنجليزية)، والأهرام إبدو (الفرنسية)، ومجلات الشباب، والأهرام الاقتصادى، والأهرام الرياضى، والسياسة الدولية، ونصف الدنيا، وعلاء الدين، وأحوال مصرية، والديمقراطية، والأهرام العربى، ولغة العصر، والبيت. وديوان الأهرام.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق