لم تكن القاهرة مدينة عادية مثل كل المدن ولم تكن عاصمة للدولة المصرية وحدها, ولكنها كانت شيئا غير كل المدن وبقيت عاصمة لأزمان كثيرة كانت الشعوب العربية فى كل مكان تشعر أن القاهرة عاصمتهم الحقيقية وإن تغيرت الأوطان والدول.. فى العصور الإسلامية كانت عاصمة الإسلام والمسلمين وكان الأزهر الشريف درتها وجامعتها وفى عصور أخرى قادت انتصارات هذه الأمة ضد المعتدين من كل جنس ولون.. ومنها خرج العلماء والمفكرون والمبدعون.. وفى القاهرة عاش عدد كبير من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام رضوان الله عليهم، وفيها ضريح سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والإمام الشافعى رضوان الله عليهم وفى القاهرة تعلم معظم المثقفين العرب فى كل المجالات فى العلوم والآداب والطب ولا توجد عاصمة عربية إلا وفيها مثقف أو شاعر أو مبدع ارتوى من ماء النيل وعاش على شطأنه.. أقول ذلك وأنا اشعر دائما أن القاهرة تمتد فى دمائنا وإنها ليست مكانا عشنا فيها ولكنها تاريخ وعمر وذكريات..
> بقيت شهور قليلة ومؤسسات الدولة المصرية تنتقل إلى مقرها الجديد فى العاصمة الجديدة وبقدر الفرحة بهذا الصرح المعمارى الجديد بقدر ما يطرح من تساؤلات عن مستقبل عاصمتنا العتيقة القاهرة فهى ليست مكانا بمقاييس الجغرافيا وليست أحداثا بلغة التاريخ وليست مجرد سكن لملايين البشر الذين اختلطت ذكرياتهم بشوارعها وبيوتها وآثارها وآلاف السنين التى امتدت عليها..
> إن الشىء المؤكد أن القاهرة تعيش الآن لحظة غير مسبوقة فى تاريخها إن زمانها كان ممتدا والناس فيها اختلطت أعمارهم ولم يعد احد يفرق بين عمر عاشه فيها وأعمار أشياء تشابكت معه وأصبحت نسيجا واحدا.. منذ فترة أبديت انزعاجي من المستقبل الذى تنتظره القاهرة سكانا وشوارع ومنشآت وتاريخا وحضارة..
> حتى الآن لم يعرف احد مصير المنشآت التاريخية ومنها آثار نادرة وعمارة فريدة وإلى أين تمضى هذه المنشآت.. هناك قصور لا تقدر بثمن وهناك عمائر تاريخية لا مثيل لها فى العالم وهناك مؤسسات تخص الدولة المصرية وهناك مجموعة من القصور المملوكة للدولة تحف معمارية نادرة.. إن السؤال الآن ما هى الخطة التى وضعتها الدولة حول مستقبل هذه الحضارة.. هناك وزارات تسكن قصورا نادرة وهناك مؤسسات تحتل منشآت تاريخية وهناك أيضا مبان عريقة مثل مجمع التحرير ومبنى وزارة الخارجية فى ميدان التحرير، وهناك مؤسسات تابعة للدولة تسكن أجزاء من القصور الرئاسية مثل محافظة القاهرة فى قصر عابدين.. نريد فقط أن نطمئن على أن هناك خطة مدروسة للمحافظة على هذا التراث فى كل الجوانب..
> لابد من التنسيق بين مؤسسات مهمة تتبع الدولة فى القاهرة ومؤسسات جديدة فى العاصمة الجديدة وهذا يتطلب تحديد الأدوار والمسئوليات والإشراف.. إن فى القاهرة اكبر جامعات مصر منها جامعتا القاهرة وعين شمس، وفى العاصمة الجديدة هناك عدد كبير من الجامعات الخاصة والحكومية .. وفى العاصمة الجديدة دار للأوبرا بجانب أوبرا القاهرة، وتشمل القاهرة أهم مراكز مصر الثقافية، ابتداء بدار الكتب والوثائق وانتهاء بالمراكز التاريخية والعلمية ومجمع اللغة العربية والمجمع العلمى.. هذه كلها مؤسسات لابد أن نحافظ عليها لأنها ليست فقط مراكز للتراث ولكنها حضارة شعب..
> هناك عدد من الشركات التى أقامتها الدولة لتحديد موقف الأصول، سواء كانت بيعا أو إيجارا أو استثمارا، ويجب أن يكون التعامل مع هذه الأصول بمنتهى الدقة والشفافية خاصة أن بيع هذه الأصول يمثل مخاطر كبيرة هناك منشأت تاريخية وتراثية يجب أن تبقى بعيدة عن المزادات الحكومية التى لا تراعى فيها قدسية الأماكن وأهمية التراث..
> هناك أكثر من جهة وأكثر من شركة تتعامل مع أصول مدينة القاهرة وهنا ينبغى أن تكون هناك إدارة موحدة تضع تصورا كاملا حول مستقبل هذه الأصول.. إن قطاع التأمين يدير بعض الأصول.. والوزارات تتبعها بعض الأصول.. والسفارات الأجنبية لها حقوق وملكيات، وربما لا تفرط فيها بأى صورة من الصور خاصة أن هناك سفارات تتمتع بوضع خاص من حيث الموقع والمساحة مثل السفارة الانجليزية على نيل جاردن سيتى والسفارة السعودية على نيل الجيزة.. ينبغى ألا تتعدد الجهات المسئولة عن إدارة الأصول، خاصة أن هناك أطماعا كثيرة تدور حول هذه الأصول.
> لا أتصور عرض المنشآت التاريخية فى مزادات للبيع مهما تكن الأسعار سواء للمصريين أو الأجانب أو العرب.. أن هذه المنشآت، سواء كانت قصورا أو أماكن أثرية يجب أن تبقى ملكا للأجيال القادمة لأنها حق تاريخى وتراث ينبغى أن يبقى ملكا لهذه الأجيال.. إن قصور باريس لا تباع، وكذلك قصور روما والأماكن الأثرية فى العالم لها قدسية خاصة..
> إننى اقدر كثيرا فرحة المصريين بعاصمتهم الجديدة بكل ما فيها من الجمال والإبهار، خاصة أنها تتحدث لغة العصر فى كل شىء وهى تضاهى المدن الكبرى العصرية فى العالم وهى بكل المقاييس إنجاز حضارى مبهر، ولكن ينبغى آلا ننسى مطالب القاهرة وهى كثيرة ومرهقة..
> إن الكثير من شوارع القاهرة يحتاج إلى عمليات جراحية قاسية وصعبة، وقد اتسعت مساحتها كثيرا وتحولت إلى إمبراطورية من العشوائيات ولم يتوقف الأمر على اختلال منظومة المنشآت، ولكنه تحول إلى ظواهر اجتماعية وأخلاقية خانقة.. إن القاهرة تحولت إلى مراكز للجريمة والمخدرات وما يجرى فى شوارعها وعشوائيتها يعكس خللا كبيرا فى السلوك والأخلاق.. قبل أن تمضى مواكب الدولة إلى العاصمة الجديدة يجب أن نتوقف قليلا عند متاعب القاهرة فى المياه والمجارى والأمن والزيادة السكانية وملايين البشر الذين قدموا من الريف إلى العاصمة.. إن رحيل مؤسسات الدولة إلى العاصمة الجديدة لا يعنى أبدا التخلى عن مسئوليات الحكومة تجاه عاصمتنا العريقة..
> إن القاهرة يجب أن تبقى عاصمة مصر فمازال فيها عدد كبير من كنوز الدولة المصرية التى لا تعوض.. فيها الأزهر وجامعة القاهرة وقصر عابدين وقصر القبة والقلعة والجوهرة والمتحف، ومازالت تفخر بأحيائها العريقة جاردن سيتى والزمالك والمعادى ومصر الجديدة.. ومازال فيها كورنيش النيل وفيها عظماء مصر من الكتاب والشعراء والمفكرين والمبدعين.. لا أعتقد أن القاهرة صفحة يمكن أن تتغير مكانتها وتاريخها وموقفها فى يوم من الأيام، إنها أغلى ذكريات المصريين وأقدس ما عاش فى ضمائرهم عبر كل العصور..
> إننى رجل ريفي الهوى والمولد والمكان ولم أكن يوما من أبناء القاهرة الساحرة ولكننى لم أفارقها سنوات عمرى منذ التحقت بجامعة القاهرة فى مطلع الستينيات.. كانت الحلم والسكن والملاذ.. قد أشعر الآن بشئ من الألم أن مدينتى لن تبقى كما كانت ولكننى على يقين أن فى القاهرة ملايين مثلى من عشاقها الكبار، وإننا سوف نفرح كثيرا بهذا القادم الجديد فى العاصمة الجديدة ولكن لا شىء ينسينا حبنا القديم..
عندى رجاء من الراحلين إلى عاصمتنا الجديدة وهم من أصحاب السلطان والقرار ألا ينسوا ذكرياتهم مع قاهرة المعز.. ألا ينسوا دار الأوبرا القديمة وسور الأزبكية وقاعة المحاضرات الكبرى فى جامعة القاهرة والمتحف المصرى وحفلات أم كلثوم وليالى عبد الوهاب وأغنيات العندليب.. هناك فى العاصمة الجديدة سيطل عالم جديد قد يكون أكثر إبهارا ولكن القاهرة ستبقى أكثر بريقا.. إن القاهرة ونيلها الخالد وأنغام مطربيها وندوات كتابها وصرخات ثوارها وضريح جمال عبد الناصر والسادات وسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد وأم كلثوم وعبد المنعم رياض وشهداء مصر الأبرار هذه رموز سوف تمنح القاهرة دائما الجلال والمهابة..
> أقول .. إن انتقال الدولة المصرية بعد شهور قليلة إلى العاصمة الجديدة ليس حدثا عاديا انه تاريخ جديد يدخل بنا إلى عصر آخر، وإذا كان الفرح عميقا بالعاصمة الإدارية فإن التفاؤل يجب أن يظل دائما فى أن نحافظ على قاهرتنا الغالية، فهى ليست فقط جزء عزيز من تراثنا وحضارتنا، ولكنها أجمل وأغني سنوات عمرنا..
يبقى الإنجاز شيئا رائعا وجميلا فى العاصمة الجديدة وتبقى القاهرة ركنا من أهم أركان الدولة المصرية تاريخا وقيمة ودورا..
ويبقى الشعر
وعَلمتـَنـَا العِشْقَ قبلَ الأوَانْ
فـَلمَّا كـَبـِرْنـَا .. ودَارَ الزَّمانْ
تبرَّأتَ منـَّا .. وأصبَحْتَ تنـْسى
فـَلم نـَرَ فِى العشْق غير الهَوانْ
عَشِقـْناك يا نيلُ عمرًا جميلا
عَشِقـْناك خَوْفـًا .. وَليْلا ًطويلا
وهَبْنـَاكَ يَومًا قلوبًا بَريئـَهْ
فـَهلْ كانَ عِشْقــُكَ بعضَ الخَطِيئهْ ؟!
طـُيوركَ ماتتْ ..
ولم يبقَ شىءٌ على شاِطـئـَيـْـكَ
سِوَى الصَّمتِ .. والخوفِ .. والذكرياتْ
أسِافرُ عنكَ فأغُدو طـَلِيقا ..
ويسقط ُ قيْدِى
وأرجعُ فِيكَ أرَى العُمرَ قبرًا
ويصْبحُ صَوْتِى بقايَا رُفاتْ
طيوركَ ماتـَتْ ..
ولم يبقَ فِى العشِّ غيرُ الضحَّايا
رمادٌ منَ الصُّبح .. بعضُ الصِّغارْ
جَمعتَ الخفافِيشَ فِى شَاطِئيـْـكَ
وماتَ علـى العين ِ.. ضوءُ النـَّهارْ
ظلامٌ طويلٌ على ضِفتيكَ
وكلُّ مياهكَ صارتْ دماءَ
فكيفَ سَنشَربُ منكَ الدِّماءْ ..؟
تـُرى مَنْ نعاتبُ يا نيلُ ؟ قـُلْ لِى ..
نعاتب فيكَ زمانـًا حزينـًا ..
منحناهُ عمرًا .. ولمْ يُعطِ شيئـًا..
وهل ينجبُ الحزنُ غير الضياعْ
تـُرى هل نعاتب حلمًا طريدًا .؟
تحطم بين صخور المحال ِ..
وأصبح حلما ذبيح الشراع
تـُرى هل نعاتبُ صبحًا بريئـًا ..
تشردَ بين دروبِ الحياة ِ
وأصبحَ صبحًا لقيط َ الشعاعْ ؟
تـُرى هل نعاتبُ وجهًا قديمًا
توارى مع القهر خِلف الظلام ِ
فأصبح سيفـًا كسيحَ الذراعْ ؟
تـُرى من نعاتب يا نيل ؟ قـُلْ لِى ..
ولم يَبق فى العمر الا القليلْ
حملناك فى العْين حباتِ ضوءٍ
وبين الضلوع ِ مواويلَ عشق..
وأطيارَ صبح تناجى الأصيلْ
فإن ضاعَ وجهىَ بين الزحام ِ
وبعثرتُ عمرى فى كل ِ أرض.
وصرت ُ مشاعًا .. فأنتَ الدليلْ
تـُرى مَنْ نعاتبُ يا نيلُ ؟ .. قـُلْ لِى ..
وما عادَ فِى العمْ ر وقت ٌ
لنعشَقَ غيرَكَ .. أنت َالرَّجاءْ
أنعشَقٌ غيرَكْ ..؟
وكيف ؟.. وعشقـُكَ فينـا دِماءْ
تروحُ وتغـُدو بـِغير انتهاءْ
أصبحتَ تحيَا أأسافرُ عَنـْكَ
فألمحُ وجْهَكَ فِى كلِّ شىءٍ
فيغدُو الفناراتِ .. يغدُو المطاراتِ
يغدُو المقاهِى ..
يسدُّ أمامِىَ كلَّ الطـُّرق
وأرجعُ يا نيلُ كىْ أحْترقْ
وأهربُ حينـًا
فأصبحُ فى الأرض ِطيفـًا هزيلا
وأصرخ فى النـَّاس .. أجْرى إليهم
وأرفـَعُ رأسِى لأبدُو مَعَكْ
فأصْبحُ شيئـًا كبيرًا .. كبيرًا
طويناكَ يا نيلُ بينَ القـُلوب
وفينـَا تـَعِيشُ .. ولا نـَسْمُعُكْ
تمزِّقُ فينـَا ..
وتدركُ أنك أشعَـلـْتَ نارًا
وأنك تحرق فى أضلـُعِكْ
تعربدُ فينا ..
وتدْركُ أن دمَانـا تسيلُ ..
وليسَتْ دِمَانا سِوى أدمُعِكْ
تركتَ الخفافيشَ يا نيلُ تلـْهُو
وتعْبثُ كالموتِ فى مَضجَعِكْ
وأصبحتَ تحيَا بصمت ِ القبور
وصوتِى تكسَّر فِى مسمَعِكْ
لقـْد غبتَ عنـَّا زمانـَّا طويلا ً
فقـُلْ لى بربك منْ يرجعُكْ؟
فعشـُكَ ذنبٌ .. وهجرُك ذنبٌ
أسافرُ عنكَ .. وقلـْبى مَعَكْ
[email protected]
«قصيدة أسافر منك وقلبى معك سنة 1986»
[email protected]لمزيد من مقالات يكتبها ــ فاروق جويدة رابط دائم: