لفت نظرى بشدة فى إحدى الأسواق الشعبية العتيقة بحى الرمل الميرى خلف إحدى الواجهات الزجاجية لمحل صغير الحجم أشبه بالمخازن تليفون قديم جداً وعليه صورة لآخر ملوك أسرة محمد على الملك فاروق مطبوعة وكأنها جزء أصيل من الجهاز الذى توقف استخدامه منذ مايقرب من سبعين عاماً وبجانبه مجموعة من التليفونات وزجاجات المكاحل علاها التراب وعملات معدنية تعود الى العصر الملكى وأشياء أخرى كلها تنتمى لحقبة الاربعينيات والثلاثينيات بالإضافة الى أجهزة منزلية قديمة جداً ازدحم بها مدخل المحل منها «هون نحاسى قديم يزن ما يقرب من 20 كيلو جراما» وعقود بيع وشراء ممهورة بأختام تعود للعهد الملكى الشبيهة بختم النسر الحالي.
وخلف كل هذه القطع القديمة شاهدت بصعوبة رجلا فى السبعين من العمر يحمل كثيرا من الملامح الأجنبية ابيض البشرة بعيون ملونة وشعر أصفر كثيف فسألته عن تاريخ ذلك المعرض وعلاقته به، فقال إنه من مواليد المحلة الكبري، وبدأت علاقته بكل شيء قديم بسبب أزمة تعرض لها فى صغره حيث كان طفلا مدللا، فقررت الأسرة أن تدعه يعمل فى إحدى الورش خلال فترة الاجازة الصيفية ليتعلم الجدية وتحمل المسئولية فارتبط داخل ورشة أخشاب بمنشار عجيب الشكل بدائى جدا ولكنه كان أِشبه بالآلات الوترية، وهو منشار بدائى شبيه بآلة الهيرمونيكا حصل عليه العميد «محمد الأحول» وهو صغير قبل أن يترك المحلة ليلتحق بالكلية الحربية كذكرى له من هذا المكان الجميل الذى تربى به واشترى أيضا معه مجموعة من الآلات القديمة جدا والبدائية لأحد صانعى الأحذية الجلدية القديمة اليدوية كان صاحبها قد توفى من زمن ورغب ورثة البيت والمصنع الذى كان بنفس المنزل بالدور الأرضى فى التخلص من جميع محتوياته ليشتريها «الأحول».
يقول «محمد» بدأت فى شبابى بجمع طوابع البريد والعملات الأجنبية والمصرية القديمة وتكوين مجموعات كثيرة وأصبح لدى ألبومات لها ...وتطور الأمر شيئا فشيئاً خاصة بعدما أًصبح لدى القدرة المالية بدأت أذهب الى المزادات و الأسواق القديمة مثل سوق الجمعة ومحال الانتيكات بالعطارين وبدأت أخصص مكانا لها حجرة داخل المنزل وعندما اكتظت الحجرة استأجرت شقة بسطوح المنزل.
ويضيف »لم أحب شيئا بعد أولادى وأسرتى مثل هذه الأشياء القديمة فأنا أحب ذلك العصر الذى كان كل شيء به يصنع بذوق واتقان ، فكل شيء كان له ثمن وكان عمر الاشياء طويلا جدا لأنه كان يستخدم فى صناعتها أجود الخامات ، وفى أوقات كثيرة أترك الأسرة واتناول قهوتى المفضلة وسط هذه الاشياء وأسمع الأغانى القديمة من الجرامافون والأخبار من الراديو العتيق ...هى متعة أشعر معها بأننى قد عدت إلى زمن الاربعينيات الجميل.
وعن علاقة اسرته بتلك الأنتيكات وهل سببت له أى نوع من المشكلات....يقول «الأحول» بالعكس تماماً لقد جعلت أبنائى يعشقون كل ما هو تراثى وقديم لأننى كنت أٌقوم بكل التزاماتى نحو أسرتى أولاً وما يتبقى لى فقط هو ما كنت أشترى به تلك الانتيكات ...وقد استفدت أيضا ماديا من خلال بيع بعض تلك القطع عندما كان يتكرر بعضها وأيضا عندما كنت أرغب فى شراء قطعة أخرى أكثر قيمة حتى اضطررت مع الوقت لشراء مخزن أضع به هذه المقتنيات التى اعتبرها جزءا أصيلا من وجدانى وحياتي.
ومن بين تلك المقتنيات التى ضمها متحف »الأحول جرامافون عتيق يعود الى فترة الاربعينيات ارتفاعه متر وعرضه 80 سم مصنوع من خشب الأرو ومزود بأدراج لحفظ الاسطوانات ومكتبة صغيرة لبعض الأدوات الخاصة قال إنه اشتراه بسعر 2500 جنيه فى التسعينيات من سوق الجمعة فى أثناء محاولة إحدى الأسر التخلص منه وبيعه لأن حجمه كبير وبه بعض الأعطال ... الآن سعره يصل إلى عشرين ألف جنيه ولكن بعد إجراء صيانة له.
التقينا أيضا داخل مخزن ومعرض الأحول ابنه ويعمل مهندس اتصالات بإحدى الشركات ويدعى مصطفى وقد ورث عشق وحب الانتيكات عن أبيه ويقول: انتهى من عملى فى الصباح وآتى إلى هذا المكان فترة المساء أجلس مع أبى لأتعلم منه وآخذ منه الخبرة حتى أستطيع أن أميز بين ما هو حقيقى وتقليد ولكننى استخدمت التكنولوجيا الحديثة ووظفتها لخدمة معرض والدى فقمت بعمل صفحة على الإنترنت لأعرض فيها بعض الأِشياء للبيع لأننا أصبحنا معروفين فى سوق هذه السلع واستطيع تحقيق بعض الارباح ...لكن الاشياء مرتفعة الثمن أبى لا يفرط فيها أبدا وهى وصيته أيضا أن نحتفظ بها إلا إذا ظهرت قطعة أخرى أجمل منها.
وعن علاقة الشباب بكل ماهو قديم يقول مصطفى إن مواليد فترة الثمانينيات والسبعينيات يقدرون تلك الأِشياء وينبهرون بها ويسألون عن مصادرها، أما مواليد التسعينيات فيتهكمون أحياناً ولايبالون أحيانا أخرى كثيرة بتلك الأشياء ويعتبرونها من المتحف.
ويقول مصطفى لقد بدأت دولة الصين الآن فى تقليد كل ماهو قديم فبدأت منذ عامين تقريبا بصناعة الأجهزة القديمة مثل الراديوهات القديمة والجرامافونات والشمعدانات النحاسية بنفس الطراز القديم لأن هناك أجيالا كاملة مرتبطة بحب هذه الأشياء.. ويلفت مصطفى أن سوق هذه الأشياء تحتاج إلى دعم من الدولة للحفاظ عليها وأيضا عدم السماح بخروج أو بيع هذه الاشياء العتيقة إلى الخارج لأن العرب يهتمون بشرائها وأصبحوا قوة شرائية لابأس بها فى السوق.
رابط دائم: