استوقفتنى رسالة «المشهد القديم» للرجل الذى روى لك حكايته مع الزمن، وكيف أنه تأثر بأمه التى كانت تؤذى جيرانها، وسيطرت على أسرتها، وقد آثر أبوه الصمت، فصارت لها الكلمة العليا فى البيت، وانتقل سلوكها إلى شقيقاته، فسيطرن على أزواجهن، ولم يشأ أن يقع فى هذا الفخ، فصنع ذلك مع زوجتيه التى لم تطق أى منهما البقاء معه، برغم أن له منهما أبناء، وشرح لك كيف انتهى به المطاف وحيدا، وقد وجدتنى أكتب إليك قصتى التى قد تتعجب لها، لكنها الحقيقة التى عشتها بكل حذافيرها، عسى أن أجد لديك ما يريح بالى فى هذه المرحلة من عمرى، فأنا رجل بلغت سن الثمانين منذ شهور، وأنتمى إلى أسرة متوسطة بقرية فى إحدى محافظات الدلتا، ومنذ سنوات صباى، وجدتنى مع شقيقين يصغرانى فى السن، وقد أحاطنا والدانا برعاية كبيرة.
ومرت الأيام، ونحن سعداء بحياتنا البسيطة، وفجأة رحلت والدتى إثر حادث سيارة، وهى تعبر الطريق، وانطلق السائق بسرعة جنونية، ولم يستطع أحد التقاط رقم السيارة، والتف الناس حول أمى، ونقلوها إلى المستشفى، حيث لفظت أنفاسها الأخيرة.. يا الله ماذا سنفعل؟، وكيف ستمضى بنا الحال.. هكذا تداخلت الأسئلة فى نفسى، ولم أدر بما يدور حولى، وانصرف المعزون بعد أيام، ولم يكن هناك مفر من أن يبحث أبى عن زوجة أخرى، واستقر على الارتباط بفتاة من قرية مجاورة، وانتقلت للإقامة معنا، والحق أنها كانت بمثابة أمى، واهتمت بى كثيرا، وأيقنت أننى متفوق فى الدراسة، فألحت على أبى أن يدعنى أكمل تعليمى، ولا يجبرنى على ترك الدراسة للعمل فى فلاحة الأرض الزراعية التى يملكها بزمام القرية، فوافق على مضض، وبصراحة شديدة فإنها كانت بمثابة أمى الثانية، وأكملت تعليمى الجامعى، فى حين حصل شقيقى الذى يلينى على الإعدادية فقط، والثالث خرج من المدرسة، وأنجب أبى من زوجته الثانية ثلاثة أخوة لنا.
وفور تخرجى فى كليتى، تزوجت من فتاة رشحتها لى خالتى، ووجدت فيها ما يتمناه أى شاب، وجاءنى عقد عمل فى دولة عربية، فسافرت إليها مصحوبا بدعوات الأهل والجيران، وأمضيت أربع سنوات، ثم عدت إلى مصر، وعملت فى إحدى الشركات، واشتريت أرضا زراعية، ومنزلا مجاورا لمنزل أبى، وابتسمت لى الحياة، ولم أبخل على شقيقىّ فساعدتهما قدر استطاعتى، وقد تزوج كل منهما، واستقل بحياته، وكبر أخوتى من أبى، وصارت لهم مطالب كثيرة، وعائد الأرض الزراعية أصبح يكفيهم بالكاد، واستطاع أبى بحكمته الحفاظ على مستوى الأسرة بين عائلات البلدة.
ومرض أبى، وطال مرضه، ولاحظت همسات بين أخوتى منه، حول أنه سيقسّم عليهم قطعة الأرض المبانى الموجودة بجوار بيت العائلة، لكى يقيم كل منهم منزلا فى نصيبه، وهنا حدث تحوّل كبير فى موقفى، واعتبرت أن مجرد إقدام أبى على هذه الخطوة، فيه غبن شديد لى ولشقيقىّ، واستدعانى أبى، وقال إنه سيعوضنى بأرض زراعية تعادل قيمة الأرض المبانى، فأنا وشقيقاى لنا بيوت وأسر مستقرة، أما أخوتنا فليس لهم مأوى سوى منزل العائلة الذى سيغادرونه فى أى يوم من الأيام، ولم أبال بما سمعته منه، وظللت على موقفى المعاند له، وعلمت القرية كلها بحكايتنا، ولم يؤيدنى معظمهم فى موقفى، ولجأت إلى عمى، وهو يقاربنى فى السن، واتخذته صديقا لى، وكان من رأيه أن يترك أبى كل شئ، ولا يقسّم ميراثه وهو على قيد الحياة، حتى لو كان ذلك فى صورة عقود ابتدائية لا تظهر إلا بعد وفاته.
وبينما أنا على قطيعتى مع أبى، إذا به يتعرض لوعكة صحية شديدة، وقد رحل عن الحياة، ولم أتزحزح عن موقفى، وقاطعت أخوتى، وبعد فترة طالبت بحقى فى الميراث، فأظهروا لى المستندات التى تثبت أنهم أقاموا منازلهم بناء على عقود سليمة، وقالوا إن حقى فى الحفظ والصون، وكذلك حق شقيقىّ، فلم يعجبنى كلامهم، ولجأت إلى المحاكم، ولكن لم يتحرك فى هذا الشأن ساكن حتى اليوم.
وقد جرت فى النهر مياه كثيرة، وتقوقعت على نفسى وأسرتى، وتوقفت عن التعامل مع كل المحيطين بنا، ورفضت ارتباط أى من أبنائى بفتيات من البلدة، وقاست ابنتى الكبرى الأمرين من رفضى العرسان، ومع أول طارق من بلدة بعيدة وافقت على زواجها، ومنذ خروجها من بيتنا لم تدخله، لا زائرة، ولا غضبانة، وأما الصغرى فلم يطل بها العمر، ورحلت عن الحياة، واستقل أبنائى الذكور بحياتهم، ولم يبق معى إلا ابنى الأصغر الذى يلازمنى أنا وأمه، ولم يتلق أى قدر من التعليم، ويكرس عمله فى الفلاحة.
لقد مرت سنوات طويلة، ونحن على هذه الحال، لا يطرق بابنا أحد، وليست لنا أى علاقة بمن حولنا، ورحل شقيقاى عن الحياة، وأعيش غريبا وسط أهلى، وأجتر الأحزان، ويمر بذهنى شريط الذكريات، وما صنعته بنفسى حتى وصلت إلى ما أنا فيه من وحدة.. وعندما قرأت رسالة «المشهد القديم» أيقنت أن الدنيا «مش مستاهلة» ما نفعله بأنفسنا، ولكن للأسف لا ندرك ذلك إلا بعد فوات الأوان.. أعلم أننى تأخرت كثيرا، ولكن أن يأتى الإنسان متأخرا أفضل من ألا يأتى أبدا كما يقولون، وكم أود أن تعود المياه إلى مجاريها مع أخوتى، قبل أن يحين الأجل المحتوم، فهل إلى ذلك من سبيل؟.
> ولكاتب هذه الرسالة أقول:
تثير رسالتك قضية مهمة يعانيها الكثيرون، وهى عدم الشعور بقيمة من حولهم إلا بعد فوات الأوان؟.. وقد يحدث ذلك مع الوالدين، والأقارب، وأحيانا الأصدقاء، وغالبا ما يندم البعض على ردود أفعالهم تجاه أمهاتهم وآبائهم، ولكن بعد أن يصبحوا آباء، أو يرحل عنهم آباؤهم وأمهاتهم، وكذلك الحال مع الصديق الوفى الذى كان بالأمس مخزن أسرارنا، فلا نشعر بأهميته إلا بعد أن نجرب علاقاتنا بآخرين، بعد غيابه أو ابتعاده لأى ظرف.
والحقيقة أن أكثر من نتأخر فى تقديرهم هم الوالدان لأن الإنسان لا يشعر بمدى أهميتهما والحاجة إليهما إلا بعد الابتعاد عنهما سواء اختياريا أو إجباريا، ومهما يكن الشخص مخلصا أو وفيا لوالديه لا يقدر تضحيتهما حق قدرها، وهذا ما حدث فى علاقتك بأبيك رحمه الله، فبرغم اعترافك بما قدمه لك من عطاء باعتبارك أكبر أبنائه، وحصلت على نصيب الأسد من اهتمامه بك، واهتمام زوجته التى اعتبرتك أنت وشقيقيك أبناء لها، ولم تقصر فى حقكم، أقول برغم ذلك، فإنك لم تلق بالا لما قدماه لك حتى صرت ذا شأن كبير، وصارت لك أسرة وأولاد، وأنعم الله عليك من نعمه الكثير، ورحت تبحث عن أشياء صغيرة تتعلق بقطعة أرض مقامة عليها منازل لبعض أخوتك من أبيك، وقد عوضك أنت وشقيقيك عنها، ولم يبخسكم حقكم، فلماذا فعلت ذلك؟.. لقد خسرت أخوتك، ولم تكسب أى قضية من القضايا الكثيرة التى رفعتها فى المحاكم، ولم ترض بكل العطايا التى منحك الله إياها، فانطويت على نفسك، وعشت فى دائرة مغلقة فرضتها على زوجتك وأبنائك، ولم يكونوا راضين عنها، فانصرف كل منهم إلى حاله، وواجه أمواج حياته، فتعثر تارة، ونجح تارة، أما ابنتك الكبرى، فكأنما كانت تتحين الفرصة للنفاذ بجلدها من أسرك، فبمجرد أن تزوجت بمن اخترته لها، لم تعد إليكم ولو على سبيل الزيارة، وأظنها لن تفعلها مع ما فى ذلك من عقوق لك ولأمها، وهو ما يجب أن تنتبه إليه، ولا تصنع صنيعك، وأما الصغرى، فلم تتحمل الصدمات المتتالية التى تعرضت لها، وظلت أسيرة الفراش إلى أن رحلت عن الحياة فى ريعان شبابها.
إن الخطأ القاتل الذى وقعت فيه يا سيدى هو تصورك أن انعزالك عن الآخرين سيكفل لك ولأسرتك الراحة والطمأنينة، فإذا بهذا السلاح ينعكس عليك، ويحيل حياة أسرتك إلى جحيم، وقد تجاهلت وضع حدود لعلاقتك بأهلك ومن حولك، وأذكر هنا ما قاله هنرى كلود وجون تاونسند فى كتابه «الحدود»: «تساعدنا الحدود فى العلاقات، على معرفة ما نحن عليه، وما لسنا عليه، متى نبدأ ومتى ننتهى ليبدأ الآخر.. وما نحن مسئولون عنه وما يقع فى دائرة مسئوليّة غيرنا»، فهل يمكنك تصوّر وجود دولة قادرة على العيش بسلام دون حدود تفصلها عن الدّولة المجاورة لها؟ بالطّبع لا.. أيضا تخيّل ما الذى يمكن أن يحدث لو قرّر حاكم دولة ما إزالة حدود دولته مع الدّولة المجاورة له، بحجّة صداقته الوثيقة مع حاكمها؟ ألن يعطى هذا القرار الفرصة للمجرمين المحكوم عليهم، بالهرب إلى الدّولة الأُخرى؟ وقبل أن يمرّ وقت طويل، ألَن تُعلِن هاتان الدّولتان الحرب على بعضهما البعض، أو تُقرِّران قطع علاقاتهما؟، وكلّ هذا بسبب خطوة غير حكيمة بدأت بنيات طيّبة، وعلى الجانب الآخر، هل يمكن لدولة ما، العيش بحدود مغلقة مع الدّول المجاورة لها، فلا تسمح بمرور طائراتها أو بواخرها وتغلق طُرُقها البريّة فلا يدخلها غريب أو يخرج منها أيّ من أبنائها؟ هل يمكن لأيّ دولة العيش بلا علاقات دبلوماسيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة مع جيرانها؟، فى الحقيقة، لا لأنَّه لا توجد دولة فيها كلّ احتياجات سكّانها، وإنْ قرّرتْ دولة ما إغلاق حدودها خوفاً من أن تبتلعها الدّول المجاورة، فسوف لا يمضى وقت طويل قبل أن تنهار فى كلّ نواحيها، وتصبح عُرضَةً بالفعل للابتلاع من الدّول المجاورة لها دون أدنى مقاومة، وهكذا تتحوّل الخطوة التى كانت تهدف إلى الحماية، لتصبح سبباً للانهيار، وكذلك الحال فى علاقات الأشخاص، والعلاقات الإنسانية عموما، فالحدود تُعبِّر عن حقيقتَين محوريَّتَين فى وجودنا الإنساني، الأولى تقول إنّنا أشخاص مُتفرِّدون كلّ منّا يتميّز عن الآخر ولا وجود لإنسان عبارة عن نسخة من غيره، ولا يعقل افتراض وجود شخصين يفكّران أو يشعران تماماً بذات الشّعور فى كلّ الأحوال والظّروف، أمّا الثّانية فتؤكد أنّنا نحتاج إلى بعضنا، ولا يمكننا العيش منعزلين.. ولاشك أن إدراك هاتين الحقيقتين يقودنا إلى التّنوُّع فى فهمنا وتقبُّلنا الآخرين، ويغرس فينا تحدّيات شخصيّة تساعدنا على التّغيُّر والنّموّ لكى نحقِّق علاقات صحيحة.
لقد فاتك يا سيدى أن تحتفظ بعلاقات متوازنة مع من حولك، وأن تسعى لتحقيق توافق وتكامل وتعاون معهم، فنحن بحاجة إلى بعضنا البعض عاطفيّاً، لأنّنا بدون دفء المشاعر تُبلِّدنا البرودة والوحدة وتصبح حياتنا بلا معنى، كما نحتاج إلى أن نكون بمفردنا تماماً، بعيداً قليلاً عن كلّ النّاس حتّى وإن كان أقربهم وأحبّهم إلينا.. تخيّل لو طالت المعانقة عن الوقت المناسب، فماذا سيحدث؟، تخيّل لو قرّر عمود فى أحد المبانى الاقتراب من زميله للاستئناس به، ماذا يمكن أن يحدث؟.. تخيّل لو لم يكن القوس منفصلاً عن السَّهم المتحرك، فهل سينطلق السَّهم؟.
لقد شهدت حياتك علاقات شديدة القُرب من بعض الأشخاص، ثم ما لبثت أن تحولّت إلى ما يُشبه العداء فجأة، والحقيقة أنك وقعت منذ البداية دون أن تدرى فى علاقة لا حدود صحّية لها، ليس مع أخوتك من أبيك فقط، وإنما مع عمك وجيرانك، فعشت فى عزلة تامة, نفر أولاك منها، واحدا بعد الآخر، ولم يبق معك سوى ابنك الأصغر الذى شاءت أقداره أن يوضع فى هذا الموضع غير الإنسانى.
إن اعترافك بأخطائك سوف يساعدك على تدارك ما فات، وأعتقد أن أخوتك سوف يرحبون بك، إذا بادرت بزيارتهم فى منازلهم التى تبعد عن منزلك بضعة أمتار، بل إنك بمجرد أن تطرق باب أحدهم سوف يتجمعون حولك، وينسون مرارة سنوات القطيعة الطويلة بينكم، وستكون نتائج هذه المبادرة طيبة على أولادك أيضا فيفرحون بها، ويجتمع شمل العائلة من جديد.. إن كنوز الدنيا كلها لا تساوى لحظة خلاف واحدة مع الأهل، فما بالك بأخوتك، وقد كان لأمهم فضل كبير عليك، ولأبيك الذى قطفت ثماره مبكرا، فنلت كل شئ.. التعليم والزواج والمال، لكنك لم تحسن صنعا فى علاقتك بمن حولك.
الحمد لله أنك أدركت كل شئ، وأنت على قيد الحياة، فأسرع بهذه المبادرة، وأسأل الله لك التوفيق والسداد، وهو وحده المستعان.
رابط دائم: