رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بنات الحور.. شادية ملكة الشجن

محمد محمد مستجاب

إذا كان كل شيء مزيف يعيش حولنا، فإن صوت شادية وأداءها من الأشياء الحقيقية فى هذا الزمان. هكذا جاءت لنا «فاطمة أحمدكمال شاكر»، أو «شادية»، تلك النادرة، والتى تعتبر إحدى الأيقونات السينمائية، فى تاريخنا السينمائى، وإحدى الأصوات التى خلدت معظم طقوسنا سواء الأسرية أو الشعبية أو الثورية أو الدينية.

فصوتها يحمل تلك الذكريات، ويصبغها بكلماته وآهاته وشجنه المصرى الخالد والأصيل، مما يجعلنا مدينين لها، من حيث الحنين والشجن لتلك الذكريات.

إن « شادية» امرأة بمائة روح، تعرف جيدًا خصائص حواء، ومراحل تطورها، كفتاة وتلميذة وحبيبة وعاشقة وأم وجدة. إنها: السكر الذائب فى شربات أفراحنا، وملح ضبط طعام خلايانا وتكويننا المزاجى والجسدى، وحلاوة المولد التى ننتظرها بشغف، وهلال البهجة الذى يهتز باللهفة، والشمس الشديدة الحرارة عندما تغضب وتثور.

إنها صوت الجسد الحقيقى، ووصية القلب على المحبوب، ورعشة اللقاء، وقلق أم على ابنها الذاهب للجبهة، مصرية خالصة، من كعب قدميها، تلك التى خطت بها على قلوبنا، فأشجتنا، كقطعة «أرواح وملبس» تغير المزاج العام، أنثى شديدة الحدة والبراءة فى دور العمر «نور»، شاهدها وهى تخفى « سعيد مهران» داخل شقوق قلبها، تخفيه حتى عن قسوة قلبه، وفكرة الانتقام التى لا تترك عقله، تقول له: ده أنا أحطتك فى عينيا واتكحل عليك، لتصبح «نور» المرادف الحقيقى لكل الخونة، مع إنها «خائنة وامرأة ليل» بمفهومنا السطحى، لكنك ستجدها أشرف من نبوية وعليش ورءوف علوان ومن كل من التقى بهم «سعيد مهران» فى رحلته الأدوسية للانتقام.

لم تكن «شادية» ممثلة تتقن دورها فقط، بل كانت بساط ريح ينقلنا نحن المشاهدين إلى عالم آخر، انظر لتقلباتها فى دور «»زهرة» فى « ميرامار، الفتاة الخام، والفلاحة الساذجة، وكأنها تثبت كيف تتكون المرأة، تذهب لشراء زجاجة خمر لأحد النزلاء فى البانسيون، فتفاجأ بحياة أخرى، تلك الحياة التى تطل من بريق عيونها، وقسوة الواقع حولها أيضا، فتعلم مدى فقرها، ومدى الانحدار الذى تعيش فيه وجاءت منه، لكن هذا لا يعوقها، بل هو ما يدفعها كى تتقدم، وكى تزيح جبالا من الرجال والجهل والتقاليد من طريقها، خلال هذا الدور المتقن، وهذا التوهج الحقيقى الذى تخفيه، ففى الجزء الثانى، وعندما تبدأ تفهم الحياة والرجال، سنجدها شخصية أخرى غير التى شاهدناها.

المدهش وبمقاييس فنية، فإن «شادية» الوحيدة التى استطاعت أن تجسد مصريتنا بذاتيتها، أى إنها لم تقدم لنا نفسها كأنثى، أو ممثلة، بل تجاوزت كل ذلك، لتصبح رمزا مجسدا لوطن، وهوية أمة، وبعد ثورى لثورة وليدة، ثم أضافت لكل ذلك صوتها، ليصبح صوتها هو صوت مصر فى كل هذه الادوار التى تعيش فينا.


فرغم شقاوتها إلا إنها صمتت فى مخيلتنا البيت الهادى، تلك التى تجلس فيه زوجتك تتابعك بعيونها وكفيها قبل أن تقدم لك الطعام، تحتضنك بابتسماتها قبل ذراعيها، وعندما تشعر بضياعك، تدفنك فى أعماق قلبها، والذى يصبح «رحما جديدا» لميلادك.

فى البداية، أجادت أدوار الفتاة الدلوعة، خفيفة الظل، التى تحاول اكتشاف العالم حولها، ثم تطورت مسيرتها ما بين ابنة الطبقة المتوسطة المغلوبة على أمرها، والمقهورة، سواء تلميذة أو فتاة تبحث عن الحب من أجل الزواج، إلى أن جاء لها الأداء الأنثوى لتعبر عن تحولات وطن فى تلك الفترة المهمة.

فمع بدايات ثورة « يوليو» تنتقل لمرحلة أخرى، وكأنها تخلع الزى المدرسى للمرحلة السابقة، وليظهر النضج فى عيونها وجسدها وصوتها، فتقدم «زقاق المدق»، و»ميرامار»، و»شيء من الخوف»، ولتصبح تلك النماذج، أيقونات سينمائية، خاصة « فؤادة» دور الثائرة فى مواجهة الطاغية، وكيفية مقاومته، وكيف كانت فى مخدعه، ولم يستطع أن ينالها، ليكون هذا الرفض هو شرارة الثورة.

وإذا كان هذا ما يظهر على السطح من شخصية « شادية»، لكنها وفى براعة، جسدت الناحية الاجتماعية لما تريده أن يقال، فقدمت « شهرزاد أو «عايدة» فى «الزوجة الـ13»، ليكون درسًا لشهريار فى تعامله مع الأنثى، وجاءت الأغنيات لتضيف لبراعة الشخصية، فى إظهار مدى قسوة الأنثى فى الانتقام، مع احتفاظ قلبها بالحب.

ثم جاء دورها لشخصية» عصمت» فى فيلم « مراتى مدير عام»، وكأنها تشارك تطور الأنثى المصرية، وصياغة أفكارها الجديدة، أو ميلادها الجديد، تحمل خطابا عالميا لتحرير المرأة، وانتشالها من بوتقة الفقر والجهل، أو كعامل مهمش يعيش فى المجتمع من أجل الإنجاب فقط، أو من أجل اشباع رغبات الرجل فقط.

لعبت هذا الدور الجديد علينا، وبعيدَا عن أرض الفكاهة أو الحرب بين الرجل والمرأة، ليصبح فكرة، عما يبدو فيه البيت، ومدى تطوره فى ظل هذا التحول الذى حدث لأحد أعضائه، وكيف يمكن لمجتمع كامل ذكورى أن يتأقلم مع ما تفعله « شادية» وما تريد أن تقدمه على أرض الواقع.

وللمدقق فى هذا الفيلم، لا يخفى عليه، ليس التحولات الاجتماعية التى صاغتها شادية بأدائها وصوتها، بأن تكون رمانة الميزان فى البيت، بل وضعت بعداً فقهياً أو دينيا مع تعاملنا مع المرأة، وليس صوتها، ونلاحظ ذلك فى مشاهدها مع تحولات شفيق نور الدين عندما يسحب يده كى لا تنقض وضوءه.

ليصبح ما فعلته شادية، بشغف أنثوى، وبحكمة، فتحا فقهيا جديدا علينا، وليثبت أن الأديان أكثر تسامحا وأكثر تطورًا، وليصبح أخذ الأوامر من امرأة ليس عيبًا، وليصير صوت المرأة ليس عورة، ولنجد أن مصافحتها، من أجل العمل أو التهنئة، أو البهجة ليس حرامًا.

وكأن شادية تطورت، وقفزت بالأفكار الدينية، أكثر مما حدث من انتكاسة نجدها الآن فى النقاب وما خلفه لنا من عاهات اجتماعية لا نستطيع التغلب عليها.

وليصير ما فعلته شادية بجسدها أو صوتها، فتحًا جديدًا فى عقل الأمة العربية الذكورى، فهى لا تريد الزعامة، ولا تريد الانتقام من سنوات التهميش، بل تريد ابتسامة وتريد قبلة على كفها احتراما، وتريد نظرات بالعرفان والامتنان، فى ظل « سيرك ذكورى» يتقافز فيه الرجال.

وقد أكملت هذا الفكر بدور « نادية» فى فيلم «كرامة زوجتى» هذا الفيلم الجريء، ولنرى كيف تنتقم المرأة، وكيف تحافظ على زوجها بعد أن تلقنه الدرس القاسى، وكيف تجعله يشرب من نفس كأس الاهمال والأنانية الذى يلقى فيه المرأة وشرفها، وكيف جعلته يشعر بأنها خائنة، وكيف وقفت أمامه كى تحاسبه على جرائمه، وكيف وضعت رجولته فى كفة، وشرفه فى الكفة الأخرى، لنجدها تصيب الرجل المصرى بالضربة القاضية لينتبه، وليصبح هذا الدور الحاد خالدا فى ذاكرتنا السينمائية الذكورية.

وإذا أردنا أن نؤرخ لتاريخنا فى المائة عام الأخيرة، فلن نجد إلا صوت شادية يؤرخ لهذا الفترة، حتى بعد رحيلها أو بعد اعتزالها الفن.

لقد جاء التطور التمثيلى يرافقه التطور الصوتى، وليصبح صوتها هو «صوت الأسرة» وروحا البيت المصرى ومناسباته وخلال تلك الطقوس ستجد صوت شادية حاضرًا، «يا دبلة الخطوبة»، و»شبكنا ستايره حرير»، فى الزواج وطقوسه، و»سيد الحبايب» و»ماما يا حلوة» فى عيد الأم، وفى الخوف على الابن المحارب «قولوا لعين الشمس ما تحماشى»، ووسط هذ لا ننسى القدرات الأدائية بأغانيها كأنثى تحب وتعشق فى « بحبك يا اسمرانى».

وقد كان صوتها الذى غلف بالفلكلور، روحا عميقا لتراثنا الشعبى، فغنت « الحنة، الحنة يا قطر الندى»، و» دقة خلخالى يا أمه»، و»آه يا سمرانى اللون»، ليصبح هذا التراث المصرى له صوت، وليشبع ويسد فراغات الواقع، أى أنها تحفر فى الأسطورة بصوتها، لتعيد تقديمه مرة أخرى، محملا بدلال وشغف صوت مصرى حقيقى.

وقبل أن ترحل معتزلة، استطاعت فى خفة ودلال أن تجلعنا نحب» ريا « السفاحة، ثم نقلتنا بسحر صوتها لمنطقة أخرى، من طبقات صوتها، فقدمت لنا: «خد بإيدى» و» اللهم اقبل دعايا».

ثم جاء صوتها ليزيح سنوات حكم « مبارك» من الميدان، وليصبح هو صوت ثورة يناير، بأغنيات شاركتنا محنتنا، ومست قلوبنا، حتى غلفته بانتصارنا فى أغنيتها «يا حبيبتى يا مصر»، و» يا بلادى يا أحلى البلاد يا بلادى».

شادية: الحنان والرقة والأمان وخفة الدم. التى ذابت فى الحب، فذبنا معها فى الشجن، فهى قمر، لا يصاحبه الخسوف، وهى صوت مصر الشعبى الذى ينطلق فى الآفاق.

ستظل شادية، مقطورة الحنان، وقاطرة الشجن، وديزل البهجة، وجبل الأمومة، وشريان خفة الدم، صوت يحمل وصية جسد، أن تحافظ على أنثاك، أن تحبها وتحميها، أن تقدم لها قبل أن تأخذ منها، أن تعطيها قبلة بهجة كى تعطيك السعادة، صوت يقف ضد الهجرة غير المشروعة، ويجعلك تتمسك برمال هذا الوطن، وتراث تلك الأمة، فصوت شادية، صوت يبقى حتى بعد موت التاريخ.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق