عرض «فى كواليس الصحافة والسياسة» يسرد الكاتب الصحفى عاطف الغمرى تجربته الذاتية بأسلوب رشيق وسلس ويبرز كيف أن دور الصحافة مسجل فى وجدان الشعب المصرى منذ ظهور أول صحيفة وهى «وادى النيل» فى عهد الخديو اسماعيل التى كان هدفه من صدورها أن يضفى على حكمه بعدا ديمقراطيا.
..................................
ويؤكد فى مقدمته أن الصحافة عندما كانت تتمتع بمساحة من الحرية حملت أفكار الاصلاح الدينى للإمام محمد عبده والإصلاح السياسى الذى عبر عنه زعماء وطنيون مثل مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول والكتاب الذين عالجوا أفكارا نهضت بالحياة الاجتماعية لتتحول إلى تيار تنويرى حتى أنه عندما صدر دستور 23 نص للمرة الأولى على حرية الصحافة إلى أن جاءت حكومة اسماعيل صدقى وأتت بدستور 30 المقيد للحريات حتى قيام الحرب العالمية الثانية، لتعيش الصحافة منذ عام 1946 أزهى عصور حريتها.
ويتطرق الكاتب لحكايات الكواليس، التى عاشها المخضرم عبر أكثر من خمسين عاما،عاصر فيها خمسة رؤساء بداية من عبدالناصر وشهد حكاياتها عن قرب ليتعمق فى معرفتها خلال سنوات عمله مراسلا فى لندن وواشنطن وليكشف للقارئ حقائق سياسية لم نكن نعرفها ومن بينها العلاقات بين الادارة الأمريكية والاسرائيلية.
ويتناول الفصل الأول كواليس الصحافة فى عصر عبدالناصر لينقل لنا ما شهده صحفيو جيله عن قرب بطبيعة العلاقة بين الصحافة والسياسة منذ أن التحق بدار أخبار اليوم عندما عين الوزير كمال رفعت فى أول الستينيات مشرفا على أخبار اليوم.. ويصف تجربته وسياسة التحرير فى أخبار اليوم قبل أن ينتقل إلى الأهرام ويصفها بأنها مدرسة صحفية راسخة فى عالم الصحافة. وهو وصف ينطبق على الأهرام ودار الهلال، وروزاليوسف وإن كانت كل مؤسسة وكل مدرسة صحفية لها شخصيتها التى تخصها. فرئيس تحرير الأخبار موسى صبرى كان رئيسا للتحرير ومحررا فى الوقت نفسه، فى حين أن نظام العمل فى الأهرام مختلف، حيث إن رئيس تحرير الأهرام كان بمثابة قائد لمجموعة من القيادات التى كان يتشكل منها الديسك المركزى وكل منهم لديه صلاحيات ممارسة دوره وكأنه رئيس تحرير فى فترة عمله وهو النظام الذى ابتكره هيكل، فى حين أن فى الأخبار نائب رئيس التحرير يختص ومن معه من مساعديه بالأخبار المحلية، وهناك محرر مختص بالأخبار العالمية وكل منهما يتولى إعداد المادة الصحفية للنشر بعد تسلمها من رؤساء الأقسام، وفى الساعة الخامسة والنصف يواصل العمل فى الفترة المسائية رئيس التحرير وكان موسى صبرى آنذاك، ويتدخل فى المادة الصحفية.
ويشرح الكاتب دور الرقيب وكيف أن مشكلة الرقابة كانت تثير غضب الصحفيين إلى أن صدر بيان 30 مارس وبدأت المطالبة باحترام حرية التعبير عن الرأى، وكان يوسف إدريس يهاجم الرقابة وكان صوته مدويا فى أى انتخابات بنقابة الصحفيين.
وأشار أحمد بهاء الدين خلال توليه مسئولية نقيب الصحفيين إلى أن النقابة فى عهده رفعت إلى عبدالناصر مذكرة تحتج فيها على فرض الرقابة على الصحف بعد نكسة 67، وتم ترك التصرف فى النهاية لكل رئيس تحرير.
ويؤكد الكاتب ان غياب الديمقراطية والتقييد على الحرية تحولا إلى ميراث وثقافة ترسخت فى عقل الأنظمة اللاحقة وهو ما بلغ مداه فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك.. .
ويتناول الكاتب الذى يعتبر بئر معلومات فى كتابه الشيق علاقة عبدالناصر وإحسان عبدالقدوس بإسهاب، مشيرا إلى أنها كانت «صداقة بشروط»، ويؤكد أن مجلة روزاليوسف التى كان يرأسها إحسان لم تتوقف عن، انتقاد تصرفات مجلس قيادة الثورة فصدر قرار بسجن إحسان وقضى فيه ثلاثة أشهر ويعلق الكاتب بأن عبدالناصر مثله مثل بقية الرؤساء يعرف قدر الصحافة ودورها لكن غالبية الرؤساء لايستطيعون مقاومة نزعه غريزية لديهم لتقييدها.
ويحلل الكاتب دخول مصر مرحلة انفتاح اقتصادى ويقول إنه كان هناك قصور خاصة بناء قاعدة انتاجية قوية وينقل لنا الكاتب رؤى الشخصيات التى تحاور معها الأهرام لكتابة مذكراتها وإنه بدأ بالدكتور مراد غالب الذى فتح كما يقول الصندوق المغلق وشرح له أسباب هزيمة 67 وأن الاسئلة كانت عالقة فى أذهان الناس الى أن قامت مظاهرات الطلبة عام 1968 وشعر عبدالناصر بأنه لابد من التغيير.
وفى الفصل الثانى بعنوان فى الأهرام.. «عالم مختلف» ينقل لنا الكاتب بحنكة كيف انه فى أيام السادات يمكن أن تتيح لك الفرصة أن ترى بعينيك صورا حية من التاريخ ويصف لقاء نادرا مع الرئيس محمد نجيب الذى جاء لزيارة رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير الأهرام الأستاذ على حمدى الجمال ويقول عاطف الغمرى إن الرئيس السادات هو الذى سمح لمحمد نجيب بمفارقة مكان تحديد إقامته بمنطقة المرج لينتقل إلى منزل متواضع بحدائق القبة إلى أن رحل فى 28 أغسطس عام 1984 وهو مايبرز عظمة الرئيس السادات وانسانيته، وينقل لنا الكاتب عبارات سجلها نجيب فى كتاب كنت رئيسا لمصر قال فيها «أنت حر طليق.. ولم أصدق نفسى.. هل أستطيع أن أتكلم فى التليفون بلا تنصت؟ هل استطيع أن أستقبل الناس بلا رقيب ولم أصدق ذلك بسهولة».
ويؤكد الغمرى ان الأهرام عندما دخله كان لايزال محافظا على التقاليد المهنية التى وضعها محمد حسنين هيكل. ويصف كيف نجح الأستاذ فى إثراء الأهرام بباقة من كبار المفكرين والادباء ليفيضوا بما لديهم من ابداع أثرى الصحافة والوطن ويركز الكاتب على حكايات توفيق الحكيم التى تكشف ازدواجية السلطة التى لها تداعيات على الوطن طالما غابت الديمقراطية عن حكمه برغم تأثره بكتابات كبار المؤلفين ويشير الكاتب إلى إعجاب الرئيس السادات بالحكيم الذى كان له معه حوارات يستمتع بها وهو الذى أنعم عليه بقلادة النيل ويركز الغمرى على البيان الذى صدر عن الكتاب والصحفيين الخاص بتأخر الرئيس فى اتخاذ قرار استعادة الأرض التى احتلت عام 67 وكيف أن السادات اسرع قبل أكتوبر 73 بعودة الصحفيين والكتاب الى مؤسساتهم الصحفية،مدركا دوافعهم الوطنية التى املت عليهم كتابة البيان الذى أغضبه فنقلهم على اثره إلى الهيئة العامة للاستعلامات.
وينقل لنا الكاتب كيف اقنع منصور حسن السادات بالتراجع عن تحويل نقابة الصحفيين إلى ناد. ورأى السادات فى الصحفيين كما عبر عنه لأشرف غربال وينقل لنا الكاتب لقاء الأهرام بالقذافى فى اول التسعينيات وقوله العرب امامهم مائة عام ليحكموا ديمقراطيا وكيف بدا للمحاورين ان القذافى معزول تماما عن الواقع وعن الزمن والتاريخ.
ينقل لنا ايضا عاطف الغمرى قول إحسان على التليفون عندما قال للسادات لا اوافق على ما تطلبه منى، وإنما الخلاف الذى هدأ مع السادات خلال رئاسته الأهرام فى مارس 75 بعد أن ترك الأهرام هيكل فى فبراير 1974 تجدد بسبب واقعة أخرى وهى عندما أراد السادات إغلاق الطليعة ورفض إحسان ان يرتبط اسمه تاريخيا بإغلاق صحيفة وحيرة السادات بين تنفيذ رغبته او تعيين أحد غيره فاختار إحسان البديل الثانى وتحول إلى كاتب الأهرام وجاء يوسف السباعى رئيسا لمجلس الإدارة.
ويتناول الفصل الثالث نظرية مبارك «دعهم يكتبوا ولنفعل مانريد» ويحكى الكاتب أنه عندما سئل مبارك: لماذا لم تعين نائبا للرئيس من قبل الزميل الراحل عبدالستار الطويلة أجاب وجاء الرد صادما عندما قال «الشخص الذى أريده لابد أن يكون لديه مواصفات محددة أن يكون وطنيا مخلصا، عفيف اليد.
ثم يتناول الكاتب ذو التجربة الصحفية والإعلامية الواسعة تجربته فى الولايات المتحدة الأمريكية فى الفصل الرابع بعنوان خزائن الأسرار فى أمريكا لها مفاتيح.
وينقل لنا كيف أن سفير الولايات المتحدة روبيرت بيلليترو الذى عمل من 91 إلى 93 بمصر كسفير كان يزعج الرئيس مبارك بسبب الاتصالات التى يجريها مع الإخوان المسلمين وأن وجهات نظره كانت مختلفة تماما عن ووكر الذى جاء سفيرا فى مصر عام 1994 كما ينقل لنا ذكريات عشاء متوتر مع مبارك حضره بيلليترو حيث شرح مبارك رأيه بأن الإخوان لهم يد فى اغتيال السادات فقال بيلليترو لمبارك إن قمع الإرهابيين سياسة صائبة، لكن ذلك لا يكون مع الإخوان المسلمين!
يصف عاطف الغمرى فى كتابه الذى صدر اخيرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب البعد الأمريكى بين مصر وإسرائيل وكيف أن مسئولين أمريكيين كبارا اعترفوا للمرة الأولى بهزيمة إسرائيل فى 73 ويؤكد ويبرهن أيضا كيف أن حرب 73 كانت بمثابة زلزال هز إسرائيل سياسيا وعسكريا من خلال تقديم كتاب السير مارتن جيلبرت بعنوان إسرائيل.
كما ينقل لنا الكاتب الصحفى المتخصص فى السياسة الخارجية الأمريكية البعد الأمريكى فى الصراع بين مصر وإسرائيل وينقل لنا رؤى كل من السفير المخضرم أحمد ماهر السيد والسفير أشرف غربال واللواء طلعت مسلم خلال المؤتمر الذى عقد فى منتصف أكتوبر 1998 ونظمه معهد الشرف الأوسط فى واشنطن بالتعاون مع كرسى السادات للتنمية بجامعة مارى لاند حول حرب أكتوبر.
ولقد أكد آنذاك وزير خارجية مصر الأسبق أحمد ماهر السيد أن محاولات السلام فشلت لسلبية الموقف الأمريكى وغياب دور سوفييتى فعال فى البحث عن السلام، كان واضحا أن السادات ليس لديه حل سوى اللجوء إلى الحرب، ليست حربا لتحرير سيناء فقط، بل حربا تفتح الطريق لتحرير كل الأراضى العربية المحتلة وأضاف الأهم من ذلك أن الرئيس السادات لم يكن لديه أى تفكير فى أن الحل الذى يسعى إليه من خلال الحرب هو حل مصرى، بل حل شامل وكان ذلك واضحا من مشاركة سوريا فى الحرب وفى السلام وتستعيد كاتبة هذا العرض ذكرى الوزير أحمد ماهر رحمه الله..
وفى الفصل الخامس تحت عنوان نظرة من وراء الكواليس ينقل لنا الكاتب كيف أن آراء عمرو موسى السياسية لم تكن على هوى مبارك وهو فصل يكشف حقائق سياسية كثيرة فى العلاقة بين الرئاسة ووزارة الخارجية فى تخطيط السياسة الخارجية المصرية ويؤكد الغمرى أن عمرو موسى كانت له مواقفه فيما يتعلق بالسياسة الخارجية التى لم تكن على هوى مبارك حيث أباح موسى فى كلامه خلال مؤتمر صحفى عقد عام 1998 بينه وبين مادلين أولبرايت عن استقلالية السياسة الخارجية وأن ما تراه الولايات المتحدة أحيانا معبرا عن مصالحها هو حق طبيعى لمصر وأن على الولايات المتحدة أن تعترف بذلك ويطلعنا الكاتب على معلومات مثيرة فى كتابه القيم مثل زراعة إسرائيل لأجهزة تجسس على الرئيس فى البيت الأبيض وكيف أن مونيكا كانت مبعوثة الموساد للايقاع بكلينتون وتشخيص آرثر ميللر للحالة الأمريكية وينقل لنا حوارا كاملا مع آرثر ميللر وتحذير «الأهرام» فى خطاب من نائب وزير الدفاع الأمريكى أما الفصل السادس الذى يحمل عنوان الصحافة فى قبضة الإخوان فينقل لنا الكاتب كيف أن ثورة 25 يناير رجت المؤسسات الصحفية وينقل لنا تجربته الشخصية والمذبحة الصحفية التى فعلها الإخوان فى الأهرام وشيطانة الاعلام وفى رأيى أنه أهم الفصول والتى تكشف عن الفكر الليبرالى للكاتب الصحفى عاطف الغمرى الذى يتمتع بموضوعية التحليل فى كتاباته وبتجربة صحفية عريقة وعاقلة وهذا الكتاب الجيد والخاص جدا يعكس كيف أن الأهرام يذخر بمحللين وكتاب صحفيين عاشوا فى محراب الأهرام تجارب متفردة تؤهل كتبهم لأن تدرس فى كليات الإعلام وهى تركة جيدة للباحثين فى التعرف على المسافة الضيقة بين الصحافة والسياسة.
رابط دائم: