رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

قبور محمود سعيد

أحمد فضل شبلول

هل أصمِّمُ لنفسى قبرا؟ أم أُدفن فى مقابر العائلة؟ وددتُ لو أُدفن تحت البحر، تحت الأزرق، وأصافح أسماك البحر سمكةً سمكةً، قبل أن أُدفن سأوصى جنية البحر أن تختارَ لى حفرةً بحريةً لأُدفنَ فيها. تختارَ لى مقبرةً شرقيةً تتلألأُ تحت ضياءِ القمر.. تتراقصُ ليلا على نغمات الرفاتْ.. تتمايلُ صبحًا على همساتِ النسيمْ.. مقبرةً لا تنتحب.. تغنى لباقاتِ وردٍ وموتٍ جميلٍ.. تمرُّ على ذكرياتِ الفراق.. تتساءل عن حالنا.. تتفاوض من أجلنا.. مقبرةً تحب الحياةَ.. وتعشقُ لونَ العيونِ ولون الشفاه.. وكلَّ الفنونْ.. مقبرةً معمورةً بالأوانى وفرشاةَ رسمٍ وحامِلَ لوحٍ.. ومزدانةً بالأحجارِ الكريمةِ.. محروسةً من عيونِ الحسودِ.. ومنقوشةً بالحنانِ.. ومفروشةً بالضياءِ.. ومكشوفةً للسماء. مقبرة رملية وليست ترابية، فالرمل يسترنا، الرمل يشغلنا، الرمل يُلهمنا، للرملِ ألوان والإسكندرية سماؤها.. فهل يحس بى سكان القبور؟ وهل يعلمون أننى قادم إليهم بعد قليل؟.

لقد رسمت قبورا كثيرة من قبل خاصة فى لوحتى "قبور باكوس" عندما كنت شابا عام 1927، كنت خاشعا وجذعا وأنا أرسمها، كأن كل من يسكن تلك القبور هم أهلى وأقربائى وأصدقائى، ساعتها تخيلت أن يكون قبرى على الماء أو تحت الماء، بعيدا عن التراب والحجارة والغبار والبكاء المرير.

لم تعجبنى لوحة الفنان الروسى فاسيلى كاندينسكى للمقبرة العربية التى رسمها عام 1909 (زيت على كرتون) فقررت رسم المقابر بطريقتى الخاصة. بينما أعجبتنى لوحة الفنان الفرنسى أوجين دولاكروا "يتيمة فى المقبرة" التى رسمها عام 1824 (زيت على قماش) وشاهدتُها فى متحف اللوفر. شعرت بالحزن الذى تخلفه تلك الفتاة اليتيمة فى ناظريها. لقد جسّد الفنان الحزن واليأس فى عين الفتاة فاغرة الفم، ذات اليد الملقاة بفراغ صبر على فخذها. حتى قميصها المنزلق عن كتفها الأيسر يشعرنا بيأس الفتاة. وفى خلفية اللوحة، رسم الفنان سماء ومقبرة بطريقة ضبابية، بينما رسم الفتاة بدقة متناهية كى تستقطب اهتمامنا. إنها فتاة يتيمة حزينة يائسة جالسة فى مقبرة تنظر إلى شيء ما، لا نعرف ما هو؟.

لا أعتقد أن هناك شعبا اهتم بتخليد موتاه فى مقابر فاخرة مثل الشعب المصرى قديما وحديثا، فالأهرام لم تكن سوى مقبرة كبيرة لبعض حكام مصر القديمة. وإذا تتبعنا تطور تاريخ المقبرة عند الفراعنة لوجدناها فى البداية حفرة تحت سطح الأرض يوضع فيها الميت ويُهال عليه التراب ثم أصبح لها سقف من الخشب والبوص، ثم حجرة أو حجرتين تحت سطح الأرض، ولها درج يوصل إليها، ثم حجرة أو حجرتين تحت سطح الأرض وفوقهما مصطبة فوق سطح الأرض، ثم الشكل الهرمى الكامل، ثم الشكل الهرمى المكوّن من ست مصاطب كل منها أصغر من التى أسفلها. وكان الميت يدفن ومعه متعلقاته وحاجياته.

هل ستكون معى متعلقاتى وحاجياتى من لوحات وأدوات رسم فى مقبرتي؟ ربما يخرج القبر من شكله، ربما يعبر الليل نحو فضاء النهار، ربما يعلن عصيانه، ويغادر ذراته ويقاتل أحجاره، ورفات الملوك الغزاة تفر إلى صحراء العدم. وأنا أريد أن أرسم تلك الرفات وهى تفر إلى صحراء العدم، أما أنا فسوف أفر إلى شطآن النغم، وأفتح جبَّانة الشرق عند انتصاف الشتاء، أقيم طقوس الجنائز، أرى الرخام يقبِّل أقدام هذى الهياكل ويمسح حزن القلوب ويجلو النفوس.. يضمُّ العظامَ إلى صدره. الرخام انطلاقٌ لروح الصباح، انبثاقٌ لفجر الزمان، الرخام الأمان.

ومع ذلك يترامى إلى أذنى صوت فرعونى يقول لى: "إنك تعيش، إنك تعيش، ارفع نفسك، إنك لن تموت، فقم، ارفع نفسك".

كما يرتد إلى قول تيوفيل جوتييه: "خرجت زهراء الأدرياتيك من الماء بيضاء الجسد وردية، ومن ثدييها تساقط الدر على بساط تدرَّجت فيه الألوان تدرُّج الأنغام فى السلم الموسيقى". ولكنها لم تكن تخلو من بقايا قبح قديم.

تراودنى صورة بائع الوجوه الذى بلا وجه، وصورة بائع العرقسوس صاحب القربة المليئة بالدموع وحكاية نهاية العالم. وحقيقة ارتباط العقل الإنسانى بالعقل الإلهى ليشكل خلودا نوعيا، وحضور اللامتناهى فى المتناهى، وحضور البحر 33 مرة فى آيات القرآن الكريم، وأنا أسبّح للخالق 33 مرة عدد حبات سبحتى الكهرمانية. أين هي؟ يبدو أننى تركتها فى حجرتى بالمستشفى.

اكتشفت – وأنا على الكورنيش - أننى اتجه إلى الشرق من المركز المحترق فى الشاطبى، وينبغى لى أن اتجه إلى الغرب حيث بحرى والأنفوشى والمرسى أبو العباس وقلعة قايتباى وبيتنا القديم، فيه ولدت، ومنه أغرب عن الحياة، رغم الصوت الفرعونى الذى يتناهى إلى سمعى.

مررت فى عودتى وارتدادى إلى الغرب، على المركز المحترق والجثث المتفحمة واللوحات السوداء، ومن الغريب أن صوت "الليلة الكبيرة" لا يزال يملأ الفضاء الرمادى. أسمع الأراجوز يقول: (تفضل كدا تمشى وتدبّ.. وتخش من مطرح ما طلعت). يبدو أنه يقصدنى.

أسير.. بل أمشى وأدبّ كما قال لى أراجوز صلاح جاهين وناجى شاكر وسيد مكاوى.. تقبِّل أقدامى طريقَ الكورنيش، الشمس تتجه إلى الغروب، والقرص الأحمر يحدق فيَّ مؤكدا أن هذه هى المرة الأخيرة التى سيرانى فيها. إن ثوانى قليلة من الحياة تسمى الحياة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق