في ذروة تداعيات ما يسمي الربيع العربي وحالة الارتباك وشبه الفوضي التي كانت تعانيها مصر، فوجئ الجميع في منتصف شهر ديسمبر 2011 باجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب برئاسة قطر يعلن تعليق عضوية سوريا فى جامعة الدول العربية، ومنع ممثل الحكومة السورية من حضور اجتماعات مجلس الجامعة، وجميع الأجهزة والمنظمات التابعة لها، ومطالبة الدول العربية بسحب سفرائها من دمشق، مع فرض عقوبات سياسية واقتصادية على سوريا.
القرار الذى تلاه رئيس الوزراء القطرى آنذاك حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني فى مؤتمر صحفي مع الأمين العام للجامعة وقتئذ نبيل العربي، اعترضت عليه ثلاث دول هى سوريا ولبنان واليمن وامتنعت العراق عن التصويت، تضمن أيضا: دعوة جميع أطراف المعارضة السورية الى الاجتماع في مقر الجامعة العربية خلال ثلاثة أيام للاتفاق على رؤية موحدة للمرحلة الانتقالية المقبلة في سوريا على ان ينظر المجلس في نتائج أعمال هذا الاجتماع ويقرر ما يراه مناسبا بشأن الاعتراف بالمعارضة السورية.
وبعد مرور سبع سنوات علي هذا القرار الذى لم ينفذ منه سوى الجزء الخاص بمعاقبة النظام السوري، بينما فشلت جميع محاولات التوصل لرؤية موحدة للمعارضة، اكتشف الجميع التأثيرات السلبية لهذا القرار على الأمن القومي العربي، وكيف شجع موقف الجامعة المؤسف من الأزمة الليبية والقذافى فى عهد عمرو موسي ومن الأزمة السورية والأسد في عهد نبيل العربي محاولات هدم وتدمير الدولة الوطنية لإعادة تشكيل المنطقة العربية من جديد وفقا لأجندات خاصة. وقد شجع ذلك الجماعات المسلحة وعلى رأسها داعش ـ والتي حظيت بدعم بعض القوى الإقليمية والدولية ـ علي التمدد والانتشار في الأراضى السورية، وسيطرت على أكثر من نصف مساحة سوريا و80 بالمائة من موارد النفط والغاز في البلاد عام 2015، وانطلقت عناصر الإرهاب الداعشى لتهدد الأمن القومي العربي في عدة مناطق أخري، وفي أوروبا وعديد من دول العالم، وحتي بعد هزيمة هذا التنظيم وإجباره علي الانسحاب من معظم المناطق التي كان يسيطر عليها، مازال يشكل التهديد الأكبر لأوروبا، وأكدت ذلك مجلة دير شبيجل الألمانية التي ذكرت في تقرير لها منذ أشهر قليلة استنادا إلى بيانات لأجهزة الأمن الألمانية، أن التنظيم أنشأ موقعا على الإنترنت موجها بالخصوص لمقاتليه الأجانب الذين يستعدون للعودة من سوريا لبلدانهم الأصلية والذين يقدر عددهم بـ 40 ألف مقاتل، الأمر الذي يمثل خطورة داهمة على تلك البلدان ومعظمها دول أوروبية. كما راهنت أطراف عديدة علي تقسيم سوريا إذا نجحت محاولات تحطيم الدولة الوطنية، وشجعت هذه الأطراف بعض المكونات السورية مثل الأكراد علي التمسك بالانفصال، وإقامة دويلة مستقلة، واللافت للنظر هنا أن مشروع الدستور السورى الذى تم تداوله خلال جهود التوصل إلي تسوية سياسية للأزمة بين الحكومة والمعارضة والدول المتورطة في الصراع، تضمن اسم جمهورية سوريا بدلا من «الجمهورية العربية السورية» وهي ملاحظة لها مدلولات كثيرة.
لكن الأثر السلبي الأكبر لانسحاب الدور العربي من سوريا، هو انفراد إيران وتركيا بالتحكم في الوضع السوري، وتقرير مصير هذا البلد العربي المهم بالتنسيق مع القوتين العظميين أمريكا وروسيا بمعزل عن العرب، فإيران أسهمت في منع سقوط الدولة الوطنية السورية بتقديم دعم عسكري واقتصادي غير محدود للحكومة السورية، وأصبحت اللاعب الأساسي في سوريا، وأضافت منطقة نفوذ جديدة لها في العالم العربي، بكل ما يعنيه ذلك من آثار علي الأوضاع في سوريا والمنطقة، ففي عام 2015 كانت الحكومة السورية لا تسيطر علي أكثر من 20% من مساحة البلاد، لكن مع الدعم العسكري الروسي والإيراني تسيطر دمشق الرسمية الآن علي معظم الأراضي السورية والتي يقطنها 85% من السكان المتبقين.
أما تركيا فقد أحيت الأزمة السورية أحلامها الاستعمارية بأشكال مختلفة، فقد سيطرت بشكل مباشر علي نحو 4 آلاف كيلو متر من الأراضي في شمال سوريا، وقامت بإنشاء سلطات محلية ومحاكم وخدمات بريدية، وانتشرت اللافتات باللغة التركية على الطرق، ويتم جمع أموال الضرائب المحلية والإيجارات والرسوم البلدية لتمويل السلطات المحلية، وبدأ السكان هناك بالاعتياد على فكرة أن الاعتماد على تركيا طبيعي وتاريخي. ومنذ فترة وجيزة افتتحت تركيا في مدن الباب وجرابلس وأعزاز مؤسسات تعليمية تركية، يتم التعليم فيها بثلاث لغات هي العربية والتركية والإنجليزية، ويدرس فيها نحو 200 ألف سوري، وهو أمر يكرس الطموحات الاستعمارية لأنقرة في سوريا.
في هذا الواقع السوري المرير الذي تتصارع فيه قوي إقليمية ودولية عديدة، علي حساب الأمن القومي العربي، كان لابد للعرب من العودة إلي دمشق مرة أخري حفاظا علي أمنهم القومي بالدرجة الأولي، ولدعم الدولة الوطنية في سوريا. والحقيقة أن مصر كانت سباقة في إدراك أهمية الدعم العربي لسوريا، فخلال فترة حكم جماعة الإخوان الإرهابية التي كانت متورطة في القتال إلي جانب الجماعات المسلحة بسوريا، فوجئ الجميع بالرئيس المعزول محمد مرسي يعلن في مؤتمر حاشد وسط أنصاره عام 2013 قطع العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة السورية، وتأييد جماعات المعارضة المسلحة، وقد أثار ذلك قلق كل المعنيين بالأمن القومي المصري والعربي، وعقب ثورة 30 يونيو كان لمصر موقف واضح من الأزمة السورية لخصه الرئيس عبد الفتاح السيسي في ضرورة الحل السياسي للأزمة، والحفاظ علي الدولة الوطنية السورية ومؤسساتها، مع حق الشعب السوري وحده في تحديد مستقبله السياسي دون تدخل خارجي.
وقامت مصر بإجراءات كثيرة اتساقا مع هذه الرؤية بالتعاون مع الحكومة السورية والمعارضة الوطنية، ولم تنقطع الاتصالات مع كل الأطراف الفاعلة، والتي كان آخرها زيارة رئيس الأمن الوطني في سوريا اللواء علي مملوك إلي القاهرة بدعوة رئيس جهاز المخابرات العامة الوزير عباس كامل. إن كل الأنظار تترقب الآن القمة العربية التي ستعقد بتونس في مارس المقبل، لتكون المدخل لعودة دمشق إلي الجامعة العربية، واستعادة الدور العربي في سوريا، وإصلاح خطأ جسيم استمر 7 سنوات.
لمزيد من مقالات فتحــى محمــود رابط دائم: