رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

شهيد الجمال

يحتفل الإبداع الأدبى هذا الشهر بميلاد واحد من أبنائه المخلصين للجمال, بل هو واحد من شهدائه؛ كما يحزن لرحيله فى نفس الشهر. فكاتبنا عبد الحكيم قاسم (5 نوفمبر 1934 ــ 13 نوفمبر 1990) هو من مواليد خريف مصر الذى كثيرا ما تغنى نجيب محفوظ فى أعماله بسمائه الزرقاء ونسيمه الرقيق وسحبه البيضاء كاللبن الحليب؛ وهو نفس الفصل الذى لم نستطع الحفاظ على جماله التليد فى عقودنا الأخيرة, فقتلناه خنقا بالسحابة السوداء. وفى نفس اليوم الذى أكتب فيه مقالتى هذه, من ثمانية وعشرين عاما, فى 13 نوفمبر 1990, رحل عنا عبد الحكيم قاسم, بعد أن عاش عمرا ليس بالطويل يحب الجمال ويدافع عنه, ويصارع القبح حتى صرعه القبح فى النهاية مريضا بالسكر قبل الأوان. ولعل أكثر وأبلغ أعمال عبد الحكيم قاسم تعبيرا عن هذا الصراع روايته «قَدَر الغُرَف المقبضة», التى كتبها فى برلين الغربية وأتمها هناك فى عام 1980, وصدرت طبعتها الأولى عام 1982, ومؤخرا أعادت دار الشروق طبعها ضمن أعمال قاسم الكاملة التى أصدرتها الدار فى أربعة كتب عام 2016. موضوع الرواية, كما ينبئ العنوان, هو عن البيوت التى عاش فيها الكاتب, وعائلته, وأصدقاؤه ومن هم مثله من أهل الريف ومن فقراء المدن, وهى كلها تقريبا غُرَفٌ مقبضة, حتى فى عروس البحر الإسكندرية, وفى المدينة / الحديقة برلين, وهما المدينتان اللتان أحبهما الكاتب؛ لأن ضيق ذات اليد لا يعطيك فى النهاية إلا أضيق الغرف وأعتمها وأشدها حرا فى الصيف وبردا فى الشتاء. كما أن الجهل والبلادة والتخلف واليأس وفتور الهمم يضيف إلى هذا القبح القذارةَ والعجزَ عن صدها. كل هذه العوامل الخارجية والذاتية القاهرة تجتمع معا لتشكل ما يسميه قاسم بالقدر: قدر الغرف المقبضة, فى روايته التى هى نوع فريد من السيرة الذاتية؛ لأن قاسم يركز فيها على البيوت التى سكنها, منذ أن كان طفلاً فى إحدى قرى الدلتا, حتى لجأ جماليا لبرلين الغربية, ليواجه نفس المصير كلاجئ غريب فقير؛ نفس الغرف القبيحة الضيقة الخانقة القذرة, فى مدينة جميلة هى حديقة كبيرة تسكنها البيوت!

وقد صنّف عدد من النقاد هذا العمل على أنه من أدب السجون, لأن بعض الغرف المقبضة التى سكنها الكاتب ويصفها العمل كان زنزانة فى عديد من سجون مصر. فعبد العزيز ــ هكذا يسمى عبد الحكيم قاسم نفسه فى أعماله ــ قضى خمس سنوات من عمره ( 1959 ــ 1964) مسجونا سياسيا. إلا أن الرواية, من أول كلمة فيها حتى آخر كلمة, ترسم لك سلسلة من السجون المتوالية, هى الغرف المقبضة التى وُلد فيها الكاتب وعاش حتى انتهى, أو على الأقل حتى انتهت الرواية؛ بل هو فى الواقع سجن واحد كبير هو العالم. أو ربما هو العالم الثالث الذى حمله معه عبد العزيز أينما حل, حتى فى لجوئه الجمالى لبرلين؛ العالم الذى يتواشج فيه الفقر والتخلف وحرارة الشمس القاتلة فى بناء بيوت تقهر الحس الجمالىّ فى الإنسان وتحبطه وتعذبه, خاصة إذا كان فنانا مرهفا كعبد الحكيم قاسم ينتمى للأرستقراطية الجمالية, أى إلى نخبة الذوق الرفيع الذى يتقزز من أى قبح ويختنق به. وقد هزمه القبح فى حياته وعجّل برحيله؛ لكنّ أعماله الباقية انتصرت عليه فى النهاية, وقهرت بجمالها قدر الغرف المقبضة التى فرضتها عليه ظروف الميلاد والنشأة والتاريخ والجغرافيا.

قدر الغرف المقبضة سيرة ذاتية من نوع خاص, صدق إدوار الخراط، إذ سمَّاها بالعمل الفذ؛ فهى سيرة للبيوت, وهى على مستوى الرمز سيرة للوجود الإنسانىّ كله, خصوصا فى منطقتنا من العالم.


لمزيد من مقالات بهاء جاهين

رابط دائم: