رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

2 ـ كأننا فى غنى عنه!

بعض القراء ومنهم أصدقاء أعزاء، لم يكتفوا بما قلته فى الأسبوع الماضى عن أمير الشعراء أحمد شوقى فى عيد ميلاده الخمسين بعد المائة. بعضهم رأى أن ما قلته كله يدخل فى باب نقد المؤسسات الثقافية التى لم تحتفل بشوقى فى عيده. وبعضهم يلاحظ أنى لم أذكر فى المقالة بيتا واحدا من شعر شوقي. وقارئ آخر يعدد ما لم أذكره مما يتصل بهذا الشاعر العبقرى لكنه يلتمس لى العذر فى ضيق المساحة.

وكل هذا فى محله، فأنا لم أتطرق فى المقالة السابقة إلا لمسألة واحدة هى تقصيرنا نحن أهل هذا الزمان فى حق شوقى فى مناسبة كانت جديرة بأن تجعل العام كله ـ العام المقبل ـ احتفالا به وهى عيد ميلاده الخمسون بعد المائة، هذا إذا لم نحتفل به وبشعره دون انتظار للمناسبات، لأنه يستحق الاحتفال به فى أى وقت. فنحن نفتح ديوانه »الشوقيات« بأجزائه الأربعة وصفحاته التى تزيد على ثمانمائة صفحة، فضلا عن مسرحياته لنراه يخاطبنا فى أيامنا هذه كما خاطب آباءنا منذ بدأ النظم إلى هذه الساعة. والشاعر الذى يستطيع أن يخاطب كل الأجيال التى عاصرته وتوالت بعد رحيله ووجدت شعره فى انتظارها حاضرا حيا يستطيع أن يخاطب مائة جيل. لأن الشاعر الحقيقى يخاطب الفطرة البشرية أيا كان مكانها فى الزمان والمكان. ولأن الأمة الحية المتحضرة تعيش حاضرها وتتأهب لتدخل مستقبلها دون أن تنقطع عن ماضيها. وتلك هى رسالة الشعراء والكتاب والفنانين والمثقفين بوجه عام. وتلك هى رسالة شوقى بلغته المتفردة النابعة من تراث الشعر العربى كله.

فى الماضى كان الشعراء يتتلمذون على من يتاح لهم ممن يعاصرونهم أو يسبقونهم من الشعراء الأفراد. أما شوقى ومعظم جيله فقد تتلمذوا على الشعر العربى كله. ظهروا فى نهضة أوقفت عصر الانحطاط وأعادتنا إلى عصور الازدهار والقوة الكلاسيكية نتعلم منها مزودين بروح الحاضر وثقافته وتجاربه ومطالبه.. ونحن فى شعر شوقى لا نقرأ لغة واحدة، ليس لأنه كان يقلد أكثر من واحد أو يجمع بين اتجاهات متعددة، بل لأنه وجد نفسه على قمة صنعتها النهضة وفتحت أمامه طريقا يشرف منها على الشعر العربى فى كل عصوره ويغترف من ينابيعه كلها، ويعيد خلقه فى لغته هو القادرة على أن تتوقر وتتذكر وتتخيل وتتغزل وتتجمل وتنفعل بالوقائع والحوادث كما تنفعل بالقيم الروحية والمثل العليا، وتستطيع بعد هذا كله أن تتستر وتتنكر وتضحك وتبكي. وفى محجوبيات شوقى وهى القصائد والمقطوعات التى قالها يداعب صديقه الدكتور محجوب ثابت يكشف شوقى عن روح لم يكن أحد يتوقعها عنده، وهى الروح الشعبية القاهرية التى كان يتحلى بها أيضا صديقه، وكانت تحمله وهو طبيب على أن يتنقل فى احياء القاهرة ممتطيا صهوة حصانه الذى نفق لسبب غير معلوم فاضطر صاحبه لاستخدام السيارة التى يقول فيها شوقي:

لكم فى الخط سيارة/ حديث الجار والجارة

كسيارة شارلوت ـ شارلى شابلن/ على السواق جبارة إذا حركتها مالت/ على الجنبين منهارة وقد تحرن أحيانا/ وتمشى وحدها تارة!

ومن كان يتخيل أن الشاعر الأمير الذى قال ما قاله فى كبار الحوادث، ونهج البردة، والهمزية النبوية، وكارنار فون، والأندلس.. من كان يتخيل أن الذى قال هذه القصائد هو الذى قال فى قصيدة له عن الحرب التركية اليونانية يسخر فيها من الأسطول اليوناني:

سل اليونان هل رسّا/ وهل حفظ الطريق إلى أثينا؟

معاذ الله! كلا ثم كلا/ هم البحارة الغر الأجلا

وما أسطولهم فى البحر إلا/ شخاشخ ما يرحن وما يجينا! ونتوقف هنا فى الحديث عن لغة شوقى لندلف إلى عالمه الذى قلنا انه يخاطبنا فيه كما خاطب آباءنا. نعم. شوقى حى حاضر يخاطبنا فى أيامنا هذه ويوجه لنا الخطاب دون أن يرانا، لأنه وهو ينظم قصائده منذ مائة عام أو قبلها أو بعدها كان يفكر فينا لأنه كان يفكر فى مصر، وكان يتوقع ويتنبأ، وكان يرانا من المسافة الفاصلة بيننا وبينه الآن. ونحن أيضا كنا نخاطبه، لكن بأفعالنا دون أن نقصده هو بالذات ودون أن ندخل معه فى حوار ايجابي. والدليل على ذلك أننا نسيناه فى عيد ميلاده أو هكذا يبدو حتى الآن، وهذا موقف سلبى لا نقفه إزاء شوقى وحده بل نقفه أولا إزاء أنفسنا. لأننا حين ننسى شوقى ننسى البارودي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران، وننسى محمد عبده، وقاسم أمين، ولطفى السيد، والدكتور هيكل، وطه حسين، والعقاد، والحكيم.. وحين ننسى هؤلاء ننسى وجودنا المتمثل فى مصر من ناحية وفى الثقافة المصرية التى حولت الأرض والسماء، والنهر والبحر، والطمى والرمل إلى وطن وتاريخ. وعلى أساس هذا الوعى فهم شوقى دوره ونظم شعره الذى نقرأه فنشعر كأن شوقى فى الوقت الذى يخاطب فيه كلا منا على حدة يخاطبنا كلنا مجتمعين.

وفى الوقت الذى كان يخاطب فيه المعاصرين كان يخاطبنا نحن أيضا ويخاطب أبناءنا وأحفادنا. يقول فى حنينه لمصر وهو منفى فى إسبانيا قبل ثورة 1919 وخلال الحرب العالمية الأولي:

وطني! لو شغلت بالخلد عنه/ نازعتنى إليه فى الخلد نفسي

شهد الله! لم يغب عن جفوني/ شخصه، ولم يخل حسي

ولا أظن أن القارئ فى حاجة لمن يشرح له هذا الشعر الذى يقول فيه إنه لا يحن لمصر لأنه منفى عنها فى إسبانيا، بل هو يحن لها ولو كان فى الجنة. ونحن قد نحتاج مع ذلك لإضاءة تساعدنا على الا نكتفى فى قراءتنا للشعر بفهم ما قيل بل تستدعى أيضا ما لم يقله الشاعر.

شوقى يقول: لم يغب عن جفونى ولم يقل: لم يغب عن عيوني. لأن رأى الجفن يختلف عن رأى العين. العين ترى الواقع الظاهر الذى يراه الجميع، لكن الجفن يرى ما نراه فى الحلم وفى الخيال. ومع أن الشاعر يتحدث عما رآه حالما متخيلا فهو يرسى شخص الوطن ولا يرى طيفه فقط أو خياله.

ويقول بعد أن تحرر من المنفى وعاد إلى مصر:

ويا وطنى لقيتك بعد يأس/ كأنى قد لقيت بك الشبابا

ولو أنى دعيت لكنت ديني/ عليه أقابل الحتم المجابا

أدير إليك قبل البيت وجهي/ إذا فهت الشهادة والمتابا

وفى الأربعاء المقبل نواصل حديثنا عن شوقى وعن شعره الذى نقرأه اليوم فنجده كأنه قيل فينا وفى الأحداث والمواقف والمخاطر التى نمر بها فى هذه الأيام.


لمزيد من مقالات ◀ بقلم : أحمد عبدالمعطى حجازى

رابط دائم: