بمعنى ما, يمكن النظر إلى رواية آتوود «قصة الخادمة» على أنها الجزء الثانى من نبوءة جورج أورويل الأدبية الشهيرة 1984؛ الرواية التى كتبها أورويل فى أجواء الحرب العالمية الثانية ونشرها فى عام 1949 متنبئاً بسيادة الفاشية والشيوعية للعالم بأسره, خلال النصف الثانى أو الربع الأخير من القرن العشرين. وهى نبوءة وإن لم تتحقق تاريخياً بحلول عام 1984, إلا أن الرؤية الأدبية للكاتب, وتعبيره البليغ عن تلك الرؤية مدافعاً عن حرية الإنسان, أنتجا عملاً مازال يؤثر بنفس القوة على وجدان القراء وحاستهم الجمالية حتى إن لم يصْدُق تماماً كنبوءة تاريخية. ومن المحتمل, بقياس الزمن, أن تكون مارجريت آتوود قد كتبت عملها «قصة الخادمة» الذى يتنبأ بانتصار الفاشية الدينية وحكمها للولايات المتحدة فى القرن الحادى والعشرين - أن تكون كتبته خلال عام 1984 نفسه, ذلك أنها نشرت «قصة الخادمة» عام 1985. وإذا كان أورويل فى روايته قد تنبأ بحكم كيان - يسمِّى نفسه بالاشتراكية الإنجليزية - لبريطانيا العظمى عام 1984, فإن آتوود ترسم فى قصة الخادمة عالماً تراه يتجسد فى بدايات الألفية الثالثة بالولايات المتحدة, حيث يقوم تنظيم مسيحى تخيُّلى متشدد يسمى نفسه أبناء يعقوب باغتيال الرئيس الأمريكى وتفجير الكونجرس, ويعلن دولة دينية شمولية هى جمهورية جيلياد. وبالتحديد أحداث الرواية تدور فى نيو إنجلند, المهد التاريخى والعاصمة المتخيلة لحركة التشدد المسيحى التى وُلدت بإنجلترا وهاجرت لأمريكا, والآن - فى ديستوبيا آتوود: قصة الخادمة - أصبحت تحكمها باسم جمهورية جيلياد. وكلمة ديستوبيا تعنى مدينة غير فاضلة أو فاسدة؛ وهى مصطلح نقدى تندرج تحته الأعمال الأدبية التى تحوى رؤى متشائمة عن مستقبل الإنسانية, ومنها 1984 «وقصة الخادمة». فجمهورية جيلياد هى عكس جمهورية أفلاطون- على سبيل المثال- التى تجسد المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا.
وتقول آتوود عن روايتها إنها عمل تأملى يستند إلى تفاصيل مستمدة من الواقع الآني. فكما استمد أورويل رؤيته من أوروبا الثلث الأوسط من القرن العشرين, ألهمت آتوود نبوءَتها تباشيرُ التشدد المسيحى فى الولايات المتحدة منذ بداية الثمانينيات. والرواية تمد هذه الإرهاصات على استقامتها إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه, فى كابوس أدبى يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته, المتمثلة أساساً فى حريته؛ خاصة المرأة, التى تتحول فى جمهورية جيلياد إلى متاع مجرد من كل الحقوق: فهى لا تتملك, ولا تعمل, ولا تنتخب, ولا تقرأ, وليس لها وجود مستقل عن الرجل أو إرادة تخصها, وحتى الزواج لا يحق لها إلا فى ظروف خاصة. وبالتأكيد لا تملك حق أن تحب, أو أن تختار. وهي, كالمجتمع كله, مقسمة إلى طوائف, وكل طائفة من النساء لها زيها الخاص: زوجات رجال الطبقة العليا يرتدين الزى الأزرق, والطباخات ومن يعملن فى تنظيف بيوت السادة يرتدين زياً أخضر داكناً, وزوجات العامة من أوساط الرجال ويسمين econowives يرتدين ثياباً مخططة بلون أزرق وأخضر وأحمر, للدلالة رمزياً على انهن يجمعن كل وظائف المرأة: العمل فى البيت والزوجية والحمل والولادة. واللون الأحمر هو ما يشير إلى تلك الوظيفة الأخيرة: الخصوبة والتناسل. واللون الأحمر هو لون ثوب المرأة التى تحكى الحكاية, وهو زى طائفتها كلها, طائفة خادمات الفراش أو الإماء والجواري. تحكى تلك الأَمَة بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن طائفتها, وعن الإنسان حين يقع فريسة للهوس والخوف والكذب والنفاق, حكاية ذلك المجتمع الذى خصص, لرجال علية القوم المتحكمين فيه, طائفة من النساء تؤدى خدمة خصوصية لهم فى ظل عقم أصاب المجتمع كله.. وهو ما سنتعرف على تفاصيله بإذن الله فى المقالة المقبلة.
لمزيد من مقالات بهاء جاهين رابط دائم: