المراقبة من بعيد تجعل الأمور والقضايا والموضوعات أكثر شمولا وكلية مما تبدو عليه فى تفاصيلها الدقيقة. عن قرب تختصر الغابة فى شجرة واحدة؛ أما نظرة طائر محلق فإن الخريطة لا تكون خطوطا وإنما تعبير عن قارات كبري. أربعة موضوعات لا تبدو مترابطة تراكمت خلال الفترة القصيرة الماضية:
أولها: أنه أثناء اجتماعات الأمم المتحدة وعقب لقاء مشترك بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلى نيتانياهو ذكر الأول أنه وقد أصبحت «القدس» عاصمة لإسرائيل فإنه آن الأوان لحل الدولتين أن يطبق على القضية الفلسطينية. كانت تلك هى المرة الأولى التى يؤكد فيها ترامب حل الدولتين، وهو بالمناسبة يعيد قضية القدس إلى المفاوضات مرة أخري؛ وحينما أتى فى اليوم التالى بقول إنه لا يمانع فى حل الدولة الواحدة إذا ما رضى الطرفان، بذلك كان مفهوما أن الرجل يلوح لإسرائيل بأن الفشل فى تطبيق حل الدولتين لن يعنى إلا الحديث عن الدولة الواحدة بكل ما يترتب عليها من نتائج تجعل احتمالا أن يكون رئيس وزراء الدولة اسمه «محمد». هذا كلام جديد فى وقته، وفى كل الأحوال فإنه وسط الكثير من القضايا الأمريكية الخاصة بالإدارة الحالية ومعظمها حرج، فإن هذه الكلمات تعنى أن مبادرة ما سوف تأتى من جانب الولايات المتحدة خلال فترة ليست بعيدة.
وثانيها: أن وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت أن وزير الخارجية «بومبيو» قد عقد لقاء مع ثمانية من وزراء الخارجية العرب من مجلس التعاون الخليجى لدول الخليج العربية الست بما فيها قطر وكل من مصر والأردن، وكان الغرض من الاجتماع الحديث عن ائتلاف عربى يواجه التهديدات التى تواجه منطقة الشرق الأوسط، ويعيد الاستقرار للمنطقة، ويدفعها إلى الرخاء والتقدم.
وثالثها: أن منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط شهدت مجموعة من الاتفاقيات التى تدعم موقع مصر كمركز للطاقة فى المنطقة، وتنفيذ الاتفاقية التى جرت بين شركة دولفيناس للغاز المصرية، وكل من شركتى نوبل ودالك الأمريكيتين اللتين تديران حقل تامارا وليفاثيان للغاز فى إسرائيل من أجل نقل ما يساوى 15 مليار دولار من الغاز خلال السنوات العشر المقبلة من خلال أنابيب الغاز المملوكة من شركة شرق المتوسط المصرية إلى مصانع التسييل فى دمياط وإدكو وتصديرها إلى الخارج. وفى إطار هذه الاتفاقيات تمت تسوية الأحكام الواقعة على مصر فيما خص التوقف عن تصدير الغاز إلى إسرائيل وقدرها 1.7 مليار دولار بتخفيضها إلى 470 مليون دولار يتم سدادها خلال 15 عاما من خلال نصيب فى عائد مرور الغاز فى الأنابيب. وفى نفس الوقت وقعت مصر اتفاقية مهمة مع قبرص لإنشاء خط أنابيب للغاز الوارد من حقل إفروديت القبرصى إلى مصر؛ وبدأت الأعمال الأولية للحفر فى حقل «نور» المصرى فى شمال سيناء. ورابعها أن أسعار النفط قد أخذت فى الارتفاع التدريجى حتى وصلت وقت كتابة المقال يوم الخميس الماضى إلى 86 دولارا للبرميل، وهو ما أعطى للمملكة العربية السعودية أهمية إسراتيجية بالغة، نظرا لأنها الدولة الوحيدة التى لديها طاقة إنتاجية فائضة تسمح لها بإضافة مليونى برميل يوميا؛ وأكثر من ذلك فإن وزير البترول السعودى أعلن أن المملكة بصدد استثمار 20 مليار دولار لكى ترفع طاقتها الإنتاجية من 12 إلى 13 مليون برميل فى اليوم.
هذه التطورات الأربعة لا تبدو مرتبطة ببعضها البعض، فحديث السلام الفلسطينى الإسرائيلى ليس بجديد، وعادة فإنه كان لا يفضى إلى نتيجة؛ ومحاولة بناء تحالف عربى مطروحة منذ فترة ليست بالقصيرة، بل إن جذورها تعود إلى ما كان مطروحا فى «إعلان دمشق» عقب حرب تحرير الكويت؛ والتطورات الجارية فى منطقة شرق البحر المتوسط بخصوص الغاز تجرى فى مسارها هذا منذ بضع سنوات؛ وارتفاع أسعار النفط يسير فى النمط المعلوم تاريخيا بدورات ما بين الانخفاض الشديد فى الأسعار ثم الارتفاع فيها حسب مجريات حالة العرض والطلب فى السوق العالمية للطاقة. ومع ذلك فإن اجتماع هذه التطورات يطرح تغييرات عميقة فى البيئة الجيو سياسية والجيو اقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط تستوجب الانتباه خاصة لدينا فى مصر، حيث تبدو هى المركز فى كل هذه التطورات. صحيح أن ارتفاع أسعار النفط ربما يقلل من الآثار الإيجابية التى حصلت عليها مصر من التطورات الجارية فى مجال الغاز وجعلها تحقق الاكتفاء الذاتي، إلا أن هذا الارتفاع يفيد بشدة كلا من المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت وجميعهم حلفاء واقعيون يعرفون طريق الاستثمار فى مصر وخاصة فى سيناء.
ولكن المسألة فى الشرق الأوسط ليست اقتصادية فقط، وإنما هى فى الجوهر إستراتيجية تتعلق بالعلاقات الإقليمية والدولية للمنطقة. والمعنى هنا هو كيف تؤثر هذه التطورات كلها فى توازنات القوي، وما تعطيه لكل الأطراف من قدرات فى التفاوض والمساومة. وعلى سبيل المثال فإن الرئيس الأمريكى لا يكف عن القول إن تقديمه الحماية لدول الخليج يفرض عليها تقديم مقابل مالى لواشنطن، والعكس فى هذا هو الصحيح بمعنى أن زيادة القدرات الإنتاجية للنفط فى السعودية هو الذى يتطلب من الولايات المتحدة أن تأخذ مواقف أكثر إيجابية من قضايا المنطقة وفى المقدمة منها القضية الفلسطينية. ومن ناحية أخرى فإن مجمل التطورات فى شرق البحر المتوسط والتى بدأت بخطوة تخطيط الحدود البحرية مع قبرص، تدفع فى اتجاه تخطيط هذه الحدود مع إسرائيل، ومع فلسطين أيضا. هذا التخطيط الأخير ربما يكون أول رسم لحدود الدولة الفلسطينية البحرية والتى على إسرائيل الاعتراف به طالما أنه سوف يتم وفق نفس القواعد الخاصة بقانون الأمم المتحدة للبحار التى رغم عدم توقيع إسرائيل عليه فأنها سارت وفق ما جاء فيه فى اتفاقيتها مع قبرص. الأمر هنا أن هناك ديناميكية خاصة للحقائق الواقعة على الأرض فى الشرق الأوسط.. وطوبى لهؤلاء الذين يكونون على استعداد للاستفادة منها. فبما أن المخاطر كثيرة، فإن هناك من الفرص ما هو أكثر!.
لمزيد من مقالات ◀ د. عبدالمنعم سعيد رابط دائم: