النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يكن نبيًّا فحسب، إنما كان (صلى الله عليه وسلم) نبيًّا ورسولاً وحاكمًا وقائدًا عسكريًّا، فما تصرف فيه باعتباره نبيًّا ورسولاً فيما يتصل بشئون العقائد والعبادات والقيم والأخلاق وصح نسبته إليه (صلى الله عليه وسلم) أُخذ على النحو الذى بينه (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه، ولا يختلف أمر البيان فيه باختلاف الزمان أو المكان كونه من الأمور الثابتة سواء اتصل بأمر الفرائض كصوم رمضان، والصلاة، والزكاة، والحج، أم اتصل بأمر السنن الثابتة عنه (صلى الله عليه وسلم) كصوم عرفة أو صوم عاشوراء.
أما ما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) بصفته نبيًّا وحاكمًا أو بصفته نبيًّا وقائدًا عسكريًّا، أو بصفته نبيًّا وقاضيًا، فهو تصرف باعتبارين : باعتباره (صلى الله عليه وسلم) نبيًّا واعتباره (صلى الله عليه وسلم) حاكمًا أو قائدًا أو قاضيًا.
وإذا كان أمر النبوة والرسالة قد ختم بقول الله تعالى: «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا» (الأحزاب: 40)، وقوله (صلى الله عليه وسلم): «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لى الغنائم، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون» (حسن صحيح)، فإن ما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) باعتباره حاكمًا أو قائدًا عسكريًّا أو قاضيًا بقى من شروط وضرورات التصرف فيه توفر الصفة الأخرى وهى كون المتصرف حاكمًا أو قائدًا عسكريًّا أو قاضيًا بحسب الأحوال، ولنأخذ أنموذجًا لكل صفة من هذه الصفات.
مما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) باعتباره رسولاً وحاكمًا معا قوله (صلى الله عليه وسلم): «من أحيا أرضًا مواتًا فهى له»، يقول الإمام أبو حنيفة (رحمه الله): «هذا منه (صلى الله عليه وسلم) تصرف بالإمامة أى بصفته حاكمًا- ، فلا يجوز لأحد أن يحيى أرضًا إلا بإذن الإمام، لأن فيه تمليكًا ، فأشبه الإقطاعات، والإقطاع يتوقف على إذن الإمام فكذلك الإحياء».
وعليه فلا يجوز لأحد أن يضع يده على قطعة من الأرض ويقول أحييتها فهى لى وبينى وبينكم حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، نقول له إن النبى (صلى الله عليه وسلم) تصرف فى ذلك بصفته حاكمًا، فلا يجوز لغير الحاكم إصدار مثل هذا القرار المتعلق بالحق العام، أو المال العام أو الملك العام، وإلا لصارت الأمور إلى الفوضى وفتح أبوابا لا تسد من الفتن والاعتداء على الملك العام، وربما الاحتراب والاقتتال بين الناس، إنما يجب أن يلتزم فى ذلك بما تنظمه الدساتير والقوانين التى تنظم شئون البلاد والعباد. ومما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) باعتباره قائدًا عسكريًّا قوله (صلى الله عليه وسلم): «من قتل قتيلاً فله سلبه» فلا يجوز لأحد الآن أن يفعل ذلك ، فإذا قتل إرهابيًّا فى مواجهة إرهابية فلا يجوز له أن يقول : أنا أولى بسلاحه أو سيارته وهاتفه وما كان معه من أموال، لأن تصرف النبى (صلى الله عليه وسلم) كان بصفته حاكمًا وقائدًا عسكريًّا، إنما يلتزم فى ذلك بما تنظمه القوانين والدساتير العصرية ونظام الدولة وقواتها المسلحة. ومما تصرف فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) باعتباره قاضيًا قوله (صلى الله عليه وسلم) فى قضية الخلع، حيث أتت امرأة ثابت بن قيس النبى (صلى الله عليه وسلم) فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه فى خلق ولا دين ، ولكنى أكره الكفر فى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته»، قالت: نعم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة»، فقد تصرف (صلى الله عليه وسلم) باعتباره نبيًّا وقاضيًا، وهو أيضًا من الأمور التى ينظمها القانون فى عصرنا ويجب الالتزام فيها بما ينظمه القانون، وهو ما يعرف فى الفقه الإسلامى بتطليق القاضي، وله ضوابطه الشرعية والقانونية.
لمزيد من مقالات محمد مختار جمعة وزير الأوقاف رابط دائم: