يكثف فى قصيدته ويقطّر ويمزج ويدمج فنون الغناء والقص والدراما. ودائماً تتراءى فى نصه امرأتان: واحدة حلمية مكنونة عصية، وأخرى متاحة شائعة مبذولة مبتذلة. تتوالى القصائد فى النصف الأخير من مختارات الهيئة العامة لقصور الثقافة من شعر العراقيّ المبدع حسب الشيخ جعفر، والتى انتقاها برهافة حسن النجار، تتوالى لترسم عالماً من فجيعة الفقد رغم حضور المحبوب، ومن الحضن الفارغ وهو يضم، تتحدث فيها المحبوبة رغم الغياب، فى حوارات غنائية تتكرر فيها العبارات والجمل كلازمة الغناء، ويقوم الشاعر، وأحياناً محبوبته، أو يقوم كلاهما، بدور الراوي، وكثيراً ما تنتهى النصوص الشجية بما بدأت به. والحبيبة موجودة مفتقدة، يبحث الشاعر عنها فى وجودها، أو يرتضى بشبيه لها؛ لكن الشبه بعيد: «فجأةً: تفتتتْ ليلى الإذاعية جصاً وتراباً.. من تُرى يُقنع ساقى البار أن الجص كان امرأةً تدركنى منغرس الخطوة فى ركنى الهزيل الضوء كل ليلة؟..». ذلك أن المرأة فى نصوص حسب الشيخ جعفر أرضية سماوية معاً؛ تجمع بين الفكرة أو المثل الأعلي، كما فى فلسفة أفلاطون، وبين التحقق الأرضيّ القاصر لهذه الفكرة أو المثل، فتقول المحبوبة: «فى المتحف منذ ثلاثة أعوامٍ كنا قرب امرأة التاج الذهبيّ معاً، تتفرّس فى وجهى وتقول لنفسك: تشبهها!». لكن حتى هذا الشبه بالمثل الأعلى فى هذا المخلوق الأرضيّ الأنثوى يفقده الشاعر، ويضطر أن يرضى بشبيه الشبيه، إذ تختتم المحبوبة القصيدة قائلة: «أترك عنوانى فى أوراق الشجر المصْفَرَّة، أكتبه فوق الثلج المتساقط أخضر نارياً، وتلاحق رجع خطاى وتتبعنى فى الأروقة البيضاء، تدق على لهبى باباً لا تُسمَع دقته، وتطوِّق نادلة البوفيت وتبحث عن بدني».
إلا أننا يجب ألا نفهم من هذا أن المرأة فى أشعار حسب الشيخ جعفر كائن رمزى فلسفي؛ بل هى كائن حيٌّ من لحم ودم، وشخصية واقعية فى المقام الأول. كل ما فى الأمر أن قراءتنا للنصوص قد تكون لها عدة مستويات أو أعماق، فيصبح للشخصية الواقعية أحياناً بُعد رمزى فلسفيّ، فى قراءة ما للنص لا تُلغى القراءات الأخرى الأكثر بداهة وذات الأولوية بما أنها أقرب للسطح. فالأمر هنا مثل المنشور الذى يحلل الضوء فيرده إلى أصوله القزحية دون أن يُلغى طبيعته الظاهرة التى تراها العين المجردة فى الأحوال العادية. ونختتم هذه القراءة لحسب الشيخ جعفر بقصيدة ربما كانت الأقرب ـ بين كل هذه القصائد المختارة ـ لفن القص؛ بل إن بها وشيجة لنوع خاص من فنون السرد يُسمَّى الرواية «القوطية»، التى من أشهر نماذجها «فرانكنشتاين» لمارى شيلر، وتتميز بالقتامة وجو الغموض أو الرعب. عنوان القصيدة «عبر الحائط فى المرآة»، ويرد فيها أكثر من مرة ذكر دستوبيفسكى التى لا تخلو بعض رواياته من طابع قوطى فى أجزاء منها: «ويخرج ملتفاً فى معطفه دستوبيفسكى الأشيب : لحيته فى الريح، وخطوته لا تُسمع».. بل إن فى القصيدة إشارة متكررة لبُرج مبنى على الطراز القوطي، ومعنى كلمة قوطى كمصطلح معمارى تختلف بالطبع عن مغزاها الاصطلاحى فى النقد الأدبي، لكنّ إصرار الشاعر على ذكر البرج القوطى وكذلك القبو فى القصيدة ربما كان محاولة لرسم أجواء قوطية - بالمعنى الأدبى للمصطلح - وعلى الطريقة الدستوييفسكية: «فى تجوالى الليليّ أصادفه، فى معطفه المتخافق، أسأله عن وجهته فيشير إلى الألق الخابى فى البرج، ويهبط فى المبنى الحجرى القاتم».
وبعد، فقد أفردت ثلاث مقالات لمختارات حسب الشيخ جعفر، وما زلت أرى أن لديّ الكثير ليقال عن مهارات وفتوحات هذا المبدع المتعددة ـ لكنّ عزائى أنك تستطيع ياعزيزى أن تُكمل ما بدأته أنا بنفسك. وحبذا لو أعيد طبع المختارات.
لمزيد من مقالات بهاء جاهين رابط دائم: