رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حكايات من الزمن الجميل

كان من تقاليد الأسرة أن نجتمع فى بيت جدى لأمى بحدائق القبة، وكان هذا الاجتماع يضم عدداً كبيراً من الأحفاد من خمس بنات وابنين، وكنا نسعد بهذا اللقاء أيما سعادة، وعندما توفيت جدتى بعد جدى انتقلت الوجهة إلى بيت أكبر خالاتى بشارع مصر والسودان (الملك سابقاً) وكنت مازلت طفلاً استمتع برعاية بنات كبرى خالاتى اللاتى كن تكبرننى بسنوات، وبعد أن تغيرت الدنيا تباعدت الزيارات ثم انقطعت تقريباً وأصبحت مقصورة على الأفراح والمآتم، غير أنى حافظت على صلتى بأبناء وبنات خالاتى بوتيرة منتظمة وإن متباعدة، وكانت من بينهم السيدة سنية عمر، وكانت بيننا مكالمات مطولة نتحدث فيها عن ذكريات الماضى الجميلة، وفى أحد الأيام فوجئت بابنتى تسألنى هل تعرف السيدة سنية عمر؟ فأجبت من فوري: ابنة خالتى فلماذا تسألين؟ فردت بأنها تكتب كلاماً جميلاً على صفحتها على الفيس بوك، وكانت مفاجأتى تامة, فطلبت منها أن ترسل لى ما كتبته, ففعلت, فإذا بى أمام تأريخ صادق وبليغ ودقيق لأسرتها فى سياقه الاجتماعى على نحو يرقى به لأن يكون مساهمة فى كتابة التاريخ الاجتماعى لمصر، وقد استمتعت بكتاباتها أيما استمتاع وبدأت هذه الكتابات تشكل محوراً لأحاديثنا الهاتفية أحثها على المزيد منها وأحاول إقناعها باستكمالها لأنها جديرة بأن تُنشر فكانت تكتفى بمشاعر العرفان لرأيى والأمل فى أن تُتم المهمة.


وُلدت سنية عمر فى 1928 فى بيت الأسرة بشارع الملك المفضى إلى قصر القبة والذى وصفته فى كتاباتها بأحلى الأوصاف لطراز مبانيه وجمال حدائقها وعطر الياسمين الذى يفوح منها على طول الطريق ونظافته, حيث كان يُكنس ويُرش صباحاً ومساءً ثم تحسرت على ما آل إليه حال هذا الشارع العريق من دمار وفساد وعدم احترام لأى ممتلكات ومحال بصورة منفرة ومزعجة منتهية بالقول بأنها لا تخرج إلى الشرفة حتى لا ترى شارعاً لا تعرفه، وقد يُقال إن هذا كان حال شارع تسكنه الصفوة لكنى أذكر أن هذا كان حال الشارع الرئيسى فى الحى الذى كانت تسكن فيه أسرتى وهو حى للطبقة المتوسطة بامتياز, حتى إنه كان يسمى بشارع الشجر رغم أن اسمه الرسمى هو شارع شركة المياه، وكان أبوها رحمه الله الصيدلى عمر فتح الله الذى تخرج فى مدرسة الصيدلة وأنشأ صيدلية الحسين الشهيرة التى كان يجتمع فيها علماء الأزهر بعد صلاة المغرب ويلتقى فيها الشعراء فقد كان يقرض الشعر, وجمعت أسرته قصائده فى ديوان صدر بعد وفاته، وتقول عنه إنها لم تسمعه يرفع صوته على أحد أبداً وكان يدلى برأيه ويقول: من عمل بنصيحتى فأهلاً ومن لم يعمل بها فليتحمل النتائج. أما الجد للأم فهو عبد الخالق عمر أستاذ اللغة العربية بدار العلوم ووكيلها والذى قام بتصحيح قاموس مختار الصحاح ومراجعته, وعندما انتهى منحه الملك وساماً ولقب البكوية، وكانت له ندوة فى بيته كل خميس يشرح فيها القرآن, غير أن المذهل ماذكرته عن معاملته للمرأة فقد كانت له بعض طقوس «سى السيد» لكنه كان يحترم زوجته وابنته الكبرى (والدتها) بطريقة مذهلة فبعد تناوله إفطاره يشرب القهوة مع زوجته ويقبل يدها ثم يمر على ابنته الكبرى ليلقى عليها تحية الصباح ويقبل يدها وكان يعتبرها مستشارة له فى كل شيء.


أما مدرستها (الكلية الأمريكية للبنات-رمسيس حالياً) فهى تصفها وأقسامها بدقة شديدة وتتحدث عن قسم التدبير المنزلى والمعمل وحجرة الرسم وغرف الموسيقى والملاعب الرياضية, وتشير إلى حرص المدرسة على حضور طالباتها حفلات صباحية للفرق الأجنبية، وفى هذا الإطار شاهدت الكوميدى فرانسيز والباليه الروسى والسيرك الإيطالي، ومرة أخرى قد يُقال إن هذا كان حال مدارس الصفوة لكن مدرستى الثانوية الحكومية (التوفيقية) كان بها ملاعب للتنس وكرة السلة والكرة الطائرة وحمام للسباحة ناهيك عن ملعب قانونى لكرة القدم له مدرجات صغيرة وجمنزيوم والتجهيزات نفسها التى أُشير إليها، لكنها خصت المكتبة وأمينتها بذكر خاص، فهى صاحبة الفضل فى تشجيعها على القراءة حتى قرأت فى المرحلة الابتدائية أعمال چورچى زيدان والمنفلوطى والشوقيات وكانت تساعدها على الفهم وبدأت فى المرحلة الثانوية قراءة الأدب الإنجليزى والروسى وهكذا خلصت إلى القول: كان التعليم علماً وثقافة واستمتاعا. أنت تتعلم وأنت مستمتع بكل دقيقة من عمرك فكيف لا أعشق مدرستي؟. ويبدو أن الجدية والشعور بالمسئولية كانتا سمتين عامتين فى المجتمع وإلا فبم نفسر سلوك مفتش قطار الاسكندرية الذى ركبته صاحبتنا وعمرها أربع سنوات مع شقيقتها وشقيقهما الأكبر منهما الذى لا يتجاوز عمره الثمانى سنوات وحدهم بعد أن نزل مرافقهم لشراء سجائر فأقلع القطار دونه فانفجرت وشقيقتها فى البكاء لكن شقيقهما الذى وصفته بالنابغة (تخرج فى كلية الهندسة وعمره 19 سنة) قال للمفتش إنه يذكر العنوان الذى سيذهبون إليه فطمأنهم ولم يتركهم إلا بعد أن أركبهم عربة حنطور أخذ اسم سائقها ورقم رخصته أوصلتهم إلى حيث والدتهم، ولا يمكننى أن أختتم هذه الحكايات دون حكاية عم عبد الستار حارس منزلهم الذى أمضى فى العمل خمسة عشر عاماً، وكان رجلاً خفيف الظل يحكى حكايات أغلبها من خياله وكانوا يحبونه جداً، وعندما مرض رفض والدها إرساله للمستشفى ووضع له سريراً فى حجرة الصالون وكان يطببه حتى تُوفى فدفنه بجوار جدها وأقام له عزاءً حضره جميع الجيران، فما أروع الزمن الجميل!.


هاتفت هذه الإنسانة الجميلة قبل عيد الأضحى فرد عليَ ابنها محمد وأخبرنى بأنها متعبة وعاودت المحاولة بعد أسبوع فأجابتنى لكن صوتها بدا شديد الوهن ثم انتقلت إلى رحمة ربها من أيام, فاللهم اغفر لها وارحمها جزاء كفاحها فى تربية أبنائها.


لمزيد من مقالات ◀ د. أحمد يوسف أحمد

رابط دائم: 
كلمات البحث: