رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ماذا جرى للجامعة المصرية؟!

عندما تجمعتْ صفوة من المثقفين المصريين لإنشاء جامعة وطنية حديثة، تضارعُ الجامعات الغربية التى أُتِيح لعدد التعلم والتخرج فيها، فقد كانت الغاية (كما سبق أن حددتُها فى كتابى «جامعة دينها العلم» 2008)، هى الانتقال بالتعليم المصرى من وِهاد التخلف والرجعية الدينية إلى ذُرى التقدم والحضور العلمى للدولة المدنية الحديثة. ونتيجة إصرار هذه النخبة أو الصفوة وكان منهم سعد زغلول وقاسم أمين وأحمد لطفى السيد- تم افتتاح الجامعة المصرية فى ديسمبر 1908. وقد كان ميثاق هذه الجامعة الأهلية الوليدة (التى رعاها الأمير أحمد فؤاد الأول، وتبرعت لها بأغلب أموالها الأميرة فاطمة إسماعيل) يقوم على استقلال هذه الجامعة بكل أمورها وشئونها دون تدخلٍ من سُلطة خارجية، وذلك بما يؤكد استقلال الجامعة وحريتها التامة فى اتخاذ قرارات علمية لا تتدخل فيها الدولة. وكان استقلال الجامعة المصرية فى ذلك الوقت أمرًا فرضته طبيعة وعى النخبة المؤسِّسة من ناحية، وقَبول حكومة ليبرالية منفتحة، لم تجد ما يضيرها فى أن تكون هذه الجامعة مفتوحة لكل المصريين بلا تمييز، وقائمة على حرية البحث، وعلى عدم التمييز بين الطلاب والمساواة التامة بينهم.

ولكن هذه الجامعة الوليدة سرعان ما اصطدمت بالمجتمع المصرى التقليدى والمحافظ إلى أبعد حد، وكانت معركتها الأولى مع هذا المجتمع فى سنة 1910 عندما قررت إنشاء القسم النسائى، فهاج المحافظون واحتجت الجرائد والمجلات ذات الاتجاه التقليدى على إنشاء هذا القسم، الأمر الذى أدى إلى إيقافه. هكذا كانت القوى المحافظة فى المجتمع أول عائق يقف فى وجه هذه الجامعة الوليدة ويمنع فتح أبوابها للفتيات. وظلت الفتاة المصرية خارج أسوار الجامعة إلى أن قامت ثورة 1919، فأحدثت تغييرًا جذريًّا فى الوعى المصرى العام والخاص، وهو الأمر الذى انعكس على علاقة المجتمع بالجامعة، فبدأ أحمد لطفى السيد يَقْبل الطالبات سِرًّا فى الجامعة، وعلى نحو فردى إلى أن أصبح حضور الفتاة المصرية واقعًا ملموسًا فى هذه الجامعة مع مطالع العشرينيات.

لكن سرعان ما اصطدمت الجامعة مع القوى التقليدية مرة أخرى عندما أصدر طه حسين كتابه «فى الشعر الجاهلى» (1926) الذى أقام الدنيا ولم يُقعدها، وذلك بسبب جذرية المنهج العلمى الذى اتبعه، وهو منهج علمى يعتمد الشك سبيلًا إلى الحقيقة، ويضع كل شيء موضع المساءلة التى تؤدى إلى القَبول أو الرفض. وكان لكتاب طه حسين وَقْع الصدمة على المجتمع التقليدى بشكل خاص، وعلى المؤسسة الأزهرية التى ظلت تناصب الجامعة المدنية العداء منذ افتتاحها بوصفها نقيضًا ماديًّا وفعليًّا لها. وكان من الممكن أن يضار طه حسين وتنال منه السهام المنهمرة من الأزهريين والمحافظين على السواء. ولكن دستور 1923 أنقذ طه حسين، وانتهى الأمر بتقديمه إلى القضاء الذى حقق معه بواسطة نائب عام عظيم فى استنارته هو محمد نور، الذى أنهى تحقيقه مع طه حسين، بأن الرجل لم يكن يقصد إلا الاجتهاد فى البحث العلمى، وأن ما وقع فيه من اتهامات أو شُبُهات دينية إنما جاء على سبيل حُسْن النية المقرونة برغبة الاجتهاد فى البحث العلمى الذى له قواعده وشروطه. وهكذا حمى دستور 1923 الذى كان نتاج ثورة 1919 وتياراتها التحررية ونزوعها الليبرالى، طه حسين من مذبحة مُحَقَّقة. وهو الأمر الذى لم يحدث مع زميله على عبد الرازق الذى أنشب الأزهر فيه أنيابه عندما أصدر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» (1925)، مؤكدًا أنه لا دولة دينية فى الإسلام، وأن الإسلام قد ترك للمسلمين شأن اختيار مذاهبهم السياسية، وأشكال الحكومات التى يولّونها عليهم. فتآمر عَلَى عَلِيّ عبد الرازق الأغلبية من الأزهريين وهيئة كبار العلماء، واجتمعت الأغراض السياسية مع التحيزات الدينية، أو تحالف القصر مع شيخ الأزهر، وكانت النتيجة هى طرد على عبد الرازق من الأزهر، وسحب شهادة العالمية منه، وتجريد الرجل من كل حقوقه المدنية، دون أى حماية أو دفاع عنه. أما الجامعة المصرية المدنية الوليدة فقد حمت ابنها طه حسين، ودافع عنه مجلس الجامعة دفاعًا رائعًا فى إحدى جلساته، مؤكدًا حرية البحث العلمى بوصفها العمود الأساسى الذى لا تقوم الجامعة إلا به. ولذلك حمت الجامعة - بوصفها مؤسسة علمية قائمة على حرية التفكير والإبداع - ابنها طه حسين من هجمات المكفرين واللاعنين. ولم يمضِ عام إلا وأصدر طه حسين طبعة جديدة من كتابه سنة 1927هى الطبعة القديمة نفسها لكتاب السنة الماضية مع حذف بعض الجُمل التى فُهِمَ منها الاستهزاء بالعقيدة الدينية، وإضافة فصل كامل عن الحرية الجامعية، وعن قواعد البحث العلمى فى آن. ولا يزال هذا الفصل الأول لكتاب طه حسين (فى الأدب الجاهلي) مرجعًا لكل من يريد أن يعى المعنى الخلاق لاستقلال الجامعة وحرية البحث العلمى فيها. وهكذا نصل إلى عام 1925 حين تولَّى الأمير «فؤاد» المُلك بعد أن كان رئيسًا شرفيًّا لمجلـس إدارة الجـامعــة الأهلية، ويستبدل بلقب (السلطان) القديم -، لقب (المَلك) الجديد - فيقرر الإشراف المباشر من الدولة على الجامعة الجديدة، الأمر الذى كان يعنى تحول الجامعة الأهلية إلى جامعة حكومية. وبالفعل تصبح الجامعة الأهلية جامعة حكومية، وتمضى فى طريقها بوصفها ملكًا خاصًّا للدولة. ومن هنا بدأ العامل الأول فى إفساد المشروع الأول والأصلى للجامعة الأهلية والليبرالية فى آن، فتأخذ الدولة فى التدخل الفعلى فى شئون هذه الجامعة على الأقل من النواحى المالية والإدارية، وهو الأمر الذى سرعان ما فتح الباب مواربًا للتدخل السياسى والأهواء السياسية فى آن. وقد حدث ذلك بالفعل مع حكومة «إسماعيل صدقى باشا» المعروف باستبداده الذى كان لا يقل ضراوة عن استبداد الملك فؤاد نفسه. وهنا يحدث الصدام الأول بين رغبة الدولة وإرادة الجامعة، الأمر الذى تنهزم معه إرادة الجامعة للمرة الأولى التى لم تكن الأخيرة. وكان ذلك عندما طولِبَتْ الجامعة بمنح الدكتوراه الفخرية لإسماعيل صدقى باشا، فرفض طه حسين عميد كلية الآداب هذا الأمر الذى رأى فيه ما يمس الجامعة وحرية قرارها، فتكون النتيجة تحرك حلمى عيسى باشا، وزير المعارف العمومية الذى طَالبَ بنقل طه حسين مستشارًا فى ديوان وزارة المعارف العمومية؛ ليبعده عن كلية الآداب، فيرفض طه حسين تنفيذ القرار، فيُصدر وزير المعارف قرارًا بِفَصله من الجامعة. وكان الفَصْل على هذا النحو بمثابة عدم اعتراف من الحكومة باستقلال الجامعة. وهو الأمر الذى دفع أحمد لطفى السيد، رئيس الجامعة إلى الاستقالة من منصبه احتجاجًا على القرار المتعسف لوزير المعارف العمومية. وكان ذلك سنة 1932. وبالفعل ظل طه حسين ثلاث سنوات خارج الجامعة يكتب فى صُحف المُعارَضة مقالات مُعارِضة حادة من ناحية (ويهاجم محمد حلمى عيسى باشا الذى أطلق عليه اسم وزير التقاليد؛ لأن الرجل كان قد أصدر قرارًا موازيًا بإغلاق معهد التمثيل فى الوقت نفسه) كما ظل يُلقى محاضرات عامة عن الأدب العربى فى قاعة «إيورت» التذكارية بالجامعة الأمريكية من ناحية موازية، وتُحيله الجماهير إلى «عميد الأدب العربى» كله بعد أن كان عميد كلية الآداب وحدها. وتمضى السنوات إلى أن تسقط حكومة إسماعيل صدقى باشا وتأتى بعدها حكومة محمد توفيق نسيم باشا (نوفمبر 1934) الذى يصدر قرارًا بعودة طه حسين إلى الجامعة (سنة 1935) مُعزَّزًا مُكرَّمًا، فيُستقبل الرجل استقبال الأبطال من جماهير طُلابه ومحبِّيه. ولكن هذه الجامعة استطاعت أن تصون لأساتذتها حرية البحث العلمى والتفكير النقدى على السواء، خصوصا فى الدراسات الإنسانية، فتسمح لواحد من أبنائها هو زكى نجيب محمود (الذى ولد سنة 1905) أن يصدر عددا من الكتب التى لا تقل فى جذريتها عن جذرية طه حسين فى الطبعة الأولى من كتابه «عن الشعر الجاهلى»، فيخرج زكى نجيب محمود كتابه عن «المنطق الوضعى» (سنة 1951)، ويتبعه بكتابه «خرافة الميتافيزيقا» (سنة 1953)، وهو الكتاب الذى يؤسس فيه لنزعة علمية خالصة لا تعرف سوى النظرة التجريبية، واللغة التى لا يمكن أن تكون دالة إلا بالإشارة إلى واقع خارجى ملموس. ولا يتعرض أحد فى ذلك الوقت لهذا الكتاب، بل تحتفى به الأوساط العلمية بوصفه إشارة لبدء ما أصبح يعرف باسم «الوضعية المنطقية». وهى مدرسة فلسفية ارتبطت بالوعى العلمى الذى وصل إلى ذروة من ذرى تطوره فى ذلك الوقت. ولحسن الحظ فإننا نحتفل بمرور ربع قرن على وفاة زكى نجيب محمود فى الثامن من هذا الشهر. ولكن الحضور الإيجابى لحرية الفكر الذى كان صدور «خرافة الميتافيزيقا» علامة عليه، سرعان ما أصابه ضربة قاصمة فى أزمة مارس 1954 التى كانت بمثابة إسدال ستار الختام لحرية الفكر الجامعى.

وبدا الأمر كما لو كانت الجريمة التى ارتكبها حلمى عيسى باشا بإيعاز من إسماعيل صدقى، هى جرثومة التدخل السياسى الذى تضخم شيئًا فشيئًا إلى أن قامت ثورة 23 يوليو، ودخلنا عهدًا جديدًا من الاستبداد السياسى لِحُكم الضباط الشباب الذين قاموا بثورة 1952، والذين لم يكونوا على استعداد لإنشاء مجتمع ديموقراطى سليم، يسمح بالتعددية السياسية الحقيقية، ولا الحريات الحزبية والفكرية المأمولة. وكانت الضحية الأولى لهذا الاستبداد الجديد هى الكارثة الكبرى التى واجهت الجامعة المصرية، والتى اقترنت بالقرار الذى أصدره مجلس قيادة الثورة فى مارس 1954 بِفصل ما يزيد بقليل على عدد خمسين أستاذًا جامعيًّا كان منهم لويس عوض ومحمود أمين العالِم وعشرات غيرهم من كبار الأساتذة الرواد الذين كان خروجهم من الجامعة وَبالًا عليها، وجريمة من الجرائم التى ارتكبها مجلس قيادة الثورة فى حق الجامعة المصرية التى بدأت منذ عام 1954 تنسى ميثاقها الأول الذى كان ينص على استقلالها من ناحية، وعلى حرية البحث العلمى والاجتهاد الفكرى من ناحية موازية.

فقد ظل هذا الأثر مستمرًا تاركًا بعض آثاره التى اقترنت بالخوف من كل ما ترتب على تضييق الحرية بكل معانيها ومستوياتها من ناحية، وكل ما قد يؤدى إلى الاصطدام بالدولة من ناحية موازية. والأمر المؤكد أن هذا الوضع ترك تأثيره على الجامعة التى لم تعد تعرف عُمداء فى قوة على مصطفى مشرفة الذى عقد تَوْأمة بين كلية العلوم التى كان هو عميدها وكلية العلوم فى جامعة لندن التى تخرَّج منها. وذلك بالقدر الذى جعله يعقد صداقات وزمالة علمية مع أبرز علماء مجاله العلمى، وعلى رأسهم آينشتاين الذى كان صديقًا له. واستمر التدخل السياسى فى الجامعة على امتداد عهد جمال عبد الناصر. صحيح أن هذا الاستبداد كان مقترنًا بالرغبة فى تحقيق العدل الاجتماعى، والرغبة فى إتاحة الفرصة لأبناء الطبقات الفقيرة فى الدخول إلى الجامعة مجانًا. ولولا ذلك ما دخلتُ أنا شخصيًّا إلى الجامعة وأكملتُ تعليمى فيها، وحصلت على مكافأة تفوقى عبر سنواتها، ولكن كنتُ أُلاحظ أن الأصوات تظل خائفة مرتعشة، حتى داخل منطقة البحث العلمى الذى لا تخرج منه لكى تنتقد وضعًا سياسيًّا أو اجتماعيًّا فى نوع من تورية المقموعين كما لو كان الحديثُ الناقد المباشر للأوضاع الاجتماعية أو السياسية مُحرمًّا على الأساتذة والطلاب على السواء. وانتهى عهد عبد الناصر بوفاته سنة 1970، وجاء عهد السادات الذى تدخل تدخلًا سلبيًّا مُعتديًّا على حرية الجامعة واستقلالها مرتين. المرة الأولي: عندما وضع يده فى أيدى الإخوان المسلمين سنة 1972، وأعطاهم مفاتيح الجامعة المصرية، سامحًا لهم بأن يفعلوا فيها ما يشاءون، تاركًا لهم الحرية فى مواجهة كل الأنشطة التى كانت تهدف إلى الإبداع فى الفنون المختلفة، ومنها المسرح والغناء والموسيقى وألوان الفنون المتعددة. فكانت النتيجة إشاعة نوعٍ من «التَّديين» الذى يُدخل الدين فيما ليس له علاقة بالدين، والذى يحتقر العلم أو يستبدل به نقيضه تحت دعوى الإيمان وشكلية الشعائر الدينية، والأمر الثاني: هو التربص بالفكر الليبرالى، أو أى أشكال فكرية مغايرة تخرج على الأصول السلفية للإخوان. وعندما ضاق السادات بما يمارسه الأكاديميون من أشكال متعددة من المعارضة له، أصدر قراره الأَشهر فى سبتمبر 1981 الذى ترتب عليه طرد أكثر من ستين أستاذًا من الجامعة، كنتُ واحدًا منهم. وللأسف كان لهذا التدخل السياسى السافر مع ما سبقه من قرار مجلس قيادة الثورة سنة 1954، مع البذرة التى زرعها حلمى عيسى باشا بموافقة إسماعيل صدقى الذى اتهم الليبراليين بأنهم عملاء للشيوعية العالمية، وقبض على عدد منهم تحت هذا الوهم أو الزعم سنة 1946، كان ذلك كله هو النواة التى أثمرت ثمارًا مُرَّة فى مجرى الثقافة المصرية بعامة والجامعة المصرية بخاصة.

هذه العوامل كلها التى تندرج تحت مسمى الاستبداد السياسى وتَدخُّله السافر فى الشئون الجامعية، هى نفسها التى كان لها وجه سلبى مضاف، هو الوجه الخاص برغبة الحكومات المستبدة فى تملق الجماهير ومداهنتها بفتح أبواب الجامعات لأبناء الشعب المصرى كله رغم أن إمكانات هذه الجامعات لا تتيح لها أن تقوم بهذه المهمة الأيديولوجية، فكانت النتيجة هى جامعة الأعداد الغفيرة التى لا تستطيع تحمل عدد طلابها ولا تزايدهم الذى يفوق قدراتها العملية والإمكانات البشرية لأساتذتها فى الوقت نفسه. ولذلك لم تعد الجامعة المصرية منذ سنوات طويلة تراعى التناسب بين عدد الطلاب وعدد الأساتذة معًا، فاختلت النسبة القياسية بين عدد الطلاب وعدد الأساتذة المعمول بها فى العالم المتقدم. وهى النسبة المقدسة فى جامعات العالم العريقة، وحلت محلها نسبة عشوائية تجعل من مبنى كلية الآداب فى جامعة القاهرة - مثلًا - الذى كان مصمَّمًا لمائتى طالب يتسع لما يزيد على خمسة وعشرين ألف طالب، ولم يعد الأستاذ يُدرِّس لعدد محدود من الطلاب يتراوح ما بين ستة طلاب إلى أربعة عشر طالبًا، وإنما أصبح الأستاذ المسكين يقوم بالتدريس لِآلاف مؤلَّفة من الطلاب، مُكدسين فى مُدَرَّج واحد، فلا يستطيع أن يعرفهم ولا يستطيعون هم أن يتلقوا عليه العلم فى صفاء يتيح لهم التمثل الحقيقى لأى معرفة أو حتى معلومة. وهكذا رأيتُ بعينى كيف أن طلاب كلية التجارة بجامعة القاهرة يستأجرون مقاعد خشبية لِيضعوها فى فراغات المدرج الكبير الذى يزدحم إلى درجة تجاوز الخيال والتى يغدو معها الأستاذ عاجزًا فعليًّا - عن التواصل مع أى طالب. يضاف إلى ذلك عامل جديد - بالإضافة إلى كارثة الأعداد الغفيرة - وهى كارثة لم تفلح معها فكرة إنشاء جامعات إقليمية تخفف الضغط عن الجامعات الأساسية فى القاهرة أو الإسكندرية، فلا تزال فكرة الجامعة الغفيرة الأعداد موجودة يزيد من نتائجها السلبية، التضخم المتواصل فى ارتفاع عدد السكان، وهو الارتفاع الذى لم تقم إزاءه الدولة المصرية إلى اليوم بموقف حاسم، كذلك الموقف الذى تأخذه الدول المتقدمة عندما تضطر إلى تحديد عدد الأطفال، والتخلى عن رعايتها الاجتماعية والصحية «تناكحوا تناسلوا تكاثروا؛ فإنى مُبَاهٍ بِكُم الأُمم يوم القيامة». ولو قُلتَ لمن يروى لكَ مثل هذا الحديث: «إنه قيل أيام أنْ كان المسلمين أقلية، فى مواجهة آلاف مؤلَّفة مُعادية من غير المسلمين، وأنه أصبح من المنسوخ الذى لا يعمل به بسبب تغير الأزمان والأحوال، خصوصًا بعد أن وصل عدد المسلمين إلى المليارات»، لاتُّهمتَ بأنكَ صاحب هوى وزيغ، وأنك تخرج عن مقصد الشريعة الغَرّاء. فقد منع الفكر الدينى السائد والقائم على التعصب، أى اجتهاد فى الدين أو أى تجديد فى الخطاب الدينى. ولولا أن زكى نجيب محمود قد رحل عن دنيانا الفانية فى الثامن من سبتمبر سنة 1993، لناله ما نال تلميذه حسن حنفى من تكفير من عددٍ من أساتذة الأزهر المتعصبين. وهو الأمر نفسه الذى فرض حضوره الثقيل على المناخ الفكرى العام فى الجامعة وخارج الجامعة. أعنى المناخ الذى ترتب عليه كارثة نصر حامد أبو زيد الذى كتب فيه الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين تقريرَ تكفيرٍ لا تقرير ترقية. ويبدو الأمر من هذه الزاوية كما لو كانت الجامعة قد نجت من كوارث الاستبداد السياسى لتقع فى براثن التعصب الدينى، وأن يسيطر عليها نوع من «التَّدين» ضيق الأفق، سَلَفيّ الهوى، يسهم مساهمة فعالة فى القضاء على حرية الفكر والاجتهاد فى الأمور الدينية أو حتى الاقتراب من هذه الأمور. وكانت النتيجة الابتعاد عن هذه المجالات التى قد توقِعُ فى الكفر، أو تركها مجالًا لا يباح إلا لمن هو مرضى عنه من الجماعات السلفية التى سرعان ما انتشرت واخترقت الجامعات المصرية فى كل الاتجاهات.


لمزيد من مقالات جابر عصفور;

رابط دائم: