7 آلاف سنة ولا نزال نسأل عن ذاتنا من نكون؟.. نحن الذين شهدنا أربع حضارات وتميزنا فيها: (الفرعونية، واليونانية الرومانية، والمسيحية والإسلامية) فلماذا نتعامل مع الحضارة الغربية ناقلين ومقلدين؟ .. المصريون والعرب بناة حضارة فكيف يقبلون أن يكونوا أتباع حضارات أخري؟ والى متى نظل فى مفترق الطرق فرحين بـجنة العبيط ؟! هذه التساؤات وغيرها من الأسئلة الفلسفية الكبرى شغلت ذهنا عربيا بين ثقافتين قضى عمره باحثاً ومفكراً بين قشور ولباب واقعنا العربى ليسرد لنا عبر (قصة عقل) و(قصة نفيس) مؤلفات عديدة أخري، لخص فيها (حصاد السنين)، متسلحا بقلم بديع جعله بحق فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة. إنه الدكتور زكى نجيب محمود الذى تصادف هذه الايام مرور ربع قرن على رحيله، ولا تزال أسئلته الكبرى الممهورة بكتبه عالقة بالذاكرة العربية تبحث عن إجابات شافية!
على مدى عقود عديدة من البحث العلمى والكتابة المبدعة، جمع مفكرنا الكبير بين عمق الفلسفة وبساطة المقال ليمتع قراءه بعلمه الغزير وأسلوبه السلس عبر إطلالته فى بلاط صاحبة الجلالة، فقد نجح فى أن يخرج الفلسفة من برجها العاجى داخل أسوار الجامعة، ليضعها فى متناول القارئ العادى بسهولة وذلك لتعلقه بالكتابة الصحفية فى وقت مبكر من حياته، فعلى الرغم من أن الفلسفة هى مجال اختصاص الدكتور زكى نجيب محمود (1 فبراير 1902 ــ 8 سبتمبر 1993م) التى قام بتدريسها بجامعات بمصر والولايات المتحدة والكويت، إلا أن علاقته بالصحافة بدأت مع بداية حياته العملية عبر مجلة الرسالة التى أنشأها أحمد حسن الزيات منذ صدورها (1932م)، ثم واصل بمجلة الثقافة لأحمد أمين، وفى سنة 1965م عهدت إليه وزارة الثقافة بإصدار مجلة تعنى بالتيارات الفكرية والفلسفية المعاصرة، فأصدر مجلة الفكر المعاصر وظل يرأس تحريرها حتى سافر إلى الكويت للعمل بجامعتها. وبعد عودته من الكويت انضم إلى أسرة كتاب الأهرام (1973م).
واستطاع عبر مقالاته العميقة أن يقرب العديد من المفاهيم الفلسفية والعلمية بلغة مبسطة لأنه مفكر يصوغ فكره أدبا وأديبا يجعل من أدبه فلسفة! ومرت حياته الفكرية بثلاث مراحل، اهتم فى المرحلة الأولى التى امتدت حتى سفره إلى أوروبا بنقد الحياة الاجتماعية فى مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التى تعبر عن الجانب التنويري. وفى المرحلة الثانية التى بدأت بعد رجوعه من أوروبا وامتدت حتى ستينيات القرن العشرين، دعا زكى نجيب محمود إلى الأخذ بحضارة الغرب وتمثلها بكل ما فيها باعتبارها حضارة العصر، مبشرا بالفلسفة الوضعية المنطقية التى نذر نفسه لشرحها فى الوطن العربي، من خلال مقالاته وبحوثه ومؤلفاته ومن أبرزها: كتب (خرافة الميتافيزيقيا) 1951 و(المنطق الوضعي) فى جزءين 1961 و(نحو فلسفة علمية ) 1962.
أما المرحلة الثالثة فقد شهدت عودته إلى التراث، فبعد نكسة 1967، تراجع الحديث عن الفلسفة الوضعية المنطقية بمصر والوطن العربي، لأن الهزيمة أثارت تساؤلات عديدة حول الكثير من المفاهيم والتيارات الفكرية والسياسية التى كانت سائدة حينذاك، وإذا كانت تلك التساؤلات قد انتهت بالجماهير العربية إلى اللجوء أكثر إلى (الدين)، فإنها قد انتهت بالعديد من المثقفين العرب أمثال عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابرى إلى مراجعة ونقد عميقين للفكر العربي. فى حين خرج الدكتور زكى نجيب محمود، بقناعة تمثلت فى اعترافه الشجاع بأن مثل ذلك المنطق وذلك الفكر العربيين المنشودين لتحديث الواقع العربى لايمكن البحث عنهما فقط فى الفلسفة الوضعية المنطقية، بل لابد من طريق آخر إلى جانبها، طريق نابع من الفكر العربى نفسه، وليس ذلك الطريق سوى التراث العربى والإسلامي، فقد أراد إخراج المجتمع العربى من أزمته الحضارية بوعى فكرى عميق وعبر عن ذلك فى جملة من المقالات والمؤلفات منها (تجديد الفكر العربي) و(قشور ولباب) و(جنة العبيط) و(رؤية إسلامية)، و(الشرق الفنان) و(قيم من التراث). وفى هذه المرحلة دعا إلى فلسفة جديدة برؤية عربية تبدأ من الجذور ولا تكتفى بها، ونادى بتجديد الفكر العربي، معتبرا أن ترك التراث كله بمنزلة انتحار حضاري. كما دعا إلى الاعتزاز بجهود علماء الحضارة العربية الإسلامية، بخاصة فى مجالات الرياضة والطب والكيمياء والفلك، بجانب المؤرخين والرحالة والشعراء والفلاسفة.
أتشرف بأنى أنتمى لجيل تتلمذ على مقالات وكتب المفكر الكبير زكى نجيب محمود، وكان لقاؤه أمنية كبيرة، وتحققت بعد سنوات من عملى فى الصحافة، ولذك قصة تستحق أن تروى حيث خص الأهرام بحديث نادر تطرق إلى جانب خفى من حياته.
لمزيد من مقالات د. مـحـمـد يونـس رابط دائم: