رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أردوغان «عديم الفائدة»

الأزمة الاقتصادية تضرب تركيا، والعملة التركية تفقد قيمتها بسرعة. الرئيس أردوغان يحاول وقف انهيار عملة بلاده، وهو يفعل كل شيء لتحقيق ذلك، إلا الشيء الوحيد الذى ينصحه به الخبراء، ألا وهو رفع سعر الفائدة. الرئيس أردوغان يكره الفائدة، ويعتبر موقفه السلبى منها مسألة مبدأ، فالفائدة فى رأيه هى أم وأب لكل شر.

لم يقل الرئيس التركى أن الشر يكمن فى الفائدة المرتفعة أو المنخفضة، فهو يرى الشر فى مبدأ الفائدة البنكية نفسه.

لا يفصح الرئيس أردوغان عن أسباب كراهيته للفائدة، لكن الكثير من الدلائل تشير إلى أن وراء هذا الموقف قناعة دينية، تعتبر فوائد البنوك المعاصرة هى نفسها الربا المحرم دينيا، ويختلط هذا الموقف بمسحة شعبوية تظهر فى قول الرئيس أردوغان إن الفائدة أداة استغلال، تجعل الأغنياء أكثر غني، والفقراء أكثر فقرا.

كان أردوغان عضوا نشيطا فى حزب الخلاص بزعامة الإسلامى نجم الدين أربكان، لكن السلطات قامت فى عام 1980 بحل الحزب وسجن مؤسسه.

انضم أردوغان لحزب الرفاه الذى أسسه أربكان عام 1983، وفى عام 1994 انتخب أردوغان رئيسا لبلدية اسطنبول، قبل أن يفوز حزب الرفاه بالانتخابات ورئاسة الحكومة فى عام 1996.

لم تدم تجربة حزب الرفاه فى السلطة طويلا، ففى 1998 أجبر أربكان على الاستقالة، وتم حل الحزب، ضمن حملة واسعة شملت أيضا إجبار أردوغان على الاستقالة من منصبه فى بلدية اسطنبول، وحبسه بتهمة التحريض والترويج لأفكار متطرفة بعد أن ألقى قصيدة عنوانها مساجدنا ثكناتنا.

أدرك أردوغان أن لا فائدة من المواجهة المباشرة مع المؤسسات القومية العلمانية، وأنه من الأفضل إظهار الاعتدال حتى يكتمل التمكين، وعندها يصبح من الممكن الكشف عن المواقف العقائدية الأصيلة للإسلام السياسي.

أسس أردوغان حزب العدالة والتنمية، وفاز الحزب بانتخابات عام 2002، ومنذ ذلك الحين وأردوغان ينفذ حملة ممنهجة للتمكين والانفراد بالسلطة، كان آخر مراحلها انتخابه فى يونيو الماضى رئيسا للجمهورية وفقا لدستور جديد يركز السلطة فى يد الرئيس.

عين أردوغان صهره وزيرا للمالية، وأجبر البنك المركزى على التخلى عن استقلاليته والانصياع لرغبات الرئيس، خاصة فيما يتعلق بسياسة سعر الفائدة؛ فأخيرا وجد أردوغان نفسه فى الموقع الذى يسمح له بالكشف عما حرص على إخفائه من آراء وتوجهات خلال السنوات السابقة، بما فى ذلك موقفه من الفوائد البنكية.

ليس لتراجع الليرة التركية سوى صلة جزئية بالعقوبات التى فرضتها الولايات المتحدة أخيرا، فمنذ بداية العام فقدت الليرة التركية 40% من قيمتها، فيما لا يتعدى عمر العقوبات الأمريكية الأسبوع الواحد.

ترجع أزمة العملة التركية أساسا إلى الديون الخارجية الهائلة المتراكمة على الشركات التركية، والتى تتزايد الشكوك فى قدرتها على السداد. أزمة تركيا اقتصادية، وتحتاج إلى حل اقتصادي، لكن الرئيس أردوغان يصر على تديين الأزمة وتسييسها. إذا كان لديهم الدولار، فإن لدينا الله والشعب، هكذا علق الرئيس أردوغان على العقوبات الأمريكية.

لا فائدة فى هؤلاء الإسلاميين. لقد قتلت مسألة الفائدة بحثا من جانب الفقهاء. ومنذ ميز الإمام محمد عبده - قبل أكثر من مائة عام - بين فوائد البنوك والربا، وأفتى بجواز الفائدة البنكية؛ فإن أجيالا من الفقهاء الإصلاحيين ساروا على نهجه، وأضافوا إلى حجته المزيد من الحجج والأسانيد. مع هذا فإن فقهاء الإخوان والإسلام السياسى والصحوة الإٍسلامية مازالوا متمسكين بتحريم الفائدة البنكية، بما فى ذلك الدكتور يوسف القرضاوى الذى يروج الإخوان لتفتحه واعتداله، وعلى نهج هؤلاء يسير أردوغان. كان اختراع النقود أحد أهم الإنجازات البشرية، لما أدى إليه من تسهيل وتسريع إنتاج وتداول الثروة؛ وليس مصادفة أن الحضارة الفرعونية الرائعة انهارت تحت ضغط أمم سبقتها إلى اختراع النقود، فمتاحفنا لا تضم أى عملة نقد فرعونية، فيما يرجع أقدم النقود الموجودة فى هذه المتاحف إلى عصر البطالمة اليونانيين.

اختراع النقود سهل إنتاج الثروة، لكنه سهل أيضا استغلال البشر، والربا هو أشهر أشكال الاستغلال المرتبطة بالنقود. انتفض الفلاسفة والأديان ضد الربا، فأرسطو وأفلاطون رفضاه تماما، والمسيحية والإسلام حرمتاه، أما اليهودية فقد سمحت به فقط فى التعامل مع غير اليهود. لقد ركز كل هؤلاء على الجانب الأخلاقى للربا، حينما يقرض أحدهم مالا لمحتاج. غير أن المال يمكن أن يتم إقراضه من أجل الاستثمار وإنتاج المزيد من الثروة التى تغنى أصحابها، وتغنى المجتمع كله، وهذا هو ما سبق فيه الأوروبيون كل الآخرين، فكان أحد الأسباب الرئيسية للنمو الاقتصادى السريع وظهور الرأسمالية فى أوروبا منذ القرن الخامس عشر، وصولا إلى اجتياح الرأسمالية والإمبريالية الأوروبية للعالم كله فى القرون اللاحقة، وهى كلها تطورات وظواهر اقتصادية قبل أن تكون ظواهر عسكرية وسياسية؛ الشيء الذى مازالت عقول الإسلاميين المحدثين عاجزة عن إدراكه.

لا نمو اقتصاديا بدون بنوك توفر التمويل للمشروعات، ولا بنوك بدون فائدة. تقديم القروض بفائدة من أجل الاستثمار هو ممارسة عرفتها حضارات مختلفة فى أزمنة قديمة، لكن البداية الحقيقية للبنوك التجارية المعروفة اليوم ترجع إلى عصر النهضة الإيطالية، فى القرن الخامس عشر. فبينما كانت القرون الوسطى تطوى صفحاتها، وكانت الرأسمالية التجارية الحديثة تدخل عصر الازدهار فى مدن شمال ووسط إيطاليا، ازدهرت أنشطة الإقراض المنظمة فى شكل البنوك الحديثة، تلبية لاحتياجات التجار، ومازال أقدم بنك فى العالم، وهو بنك مونتى دى باتشى دى سيينا، الذى تم تأسيسه فى عام 1472، مازال هذا البنك يعمل حتى اليوم، محتلا مكانة رابع أكبر بنك فى إيطاليا.

حاول الشيوعيون والإسلاميون فى البلاد التى حكموها ابتكار أنظمة اقتصادية تعمل بدون البنوك أو الفائدة، لكن كل هذا انتهى إلى الفشل الذريع.

أظن أن هذا هو نفس المصير الذى ينتظر تركيا طالما أصر أردوغان على إدارة اقتصاد بلاده فى تجاهل تام لاقتصاديات المصارف والنقود، وطالما أصر الرئيس التركى على إرضاء ضميره الدينى حتى لو أدى ذلك إلى تقويض اقتصاد بلاده، فى خلط فادح بين دين الفرد ودين الدولة.


لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: 
كلمات البحث: