أثار موضوع استخراج القرنية من أحد الموتى وزرعها فى عين أحد الأحياء ليتفادى عاهة العمى لغطا كبيرا فى المجتمع. وتدخل فى الجدل أطباء ورجال قانون وأعضاء برلمان ورجال إعلام والجمهور العادي. أهم ما يفصح عنه هذا الجدل هو أننا لم نتقدم خطوة ونصر على أن نبقى متخلفين عما هو سائد لدى الأمم الأخري، كما يفصح عن قسوة اجتماعية، حيث إن العلم أتاح لنا أن نجعل عددا من العميان مبصرين ولكن الكثيرين منا يقيمون العراقيل فى وجه ذلك وينجحون.
قضية زراعة الأعضاء من الموتى قضية حديثة مرتبطة بتطور الطب المعاصر، وهى ترتكز على تعريف الوفاة بأنها موت جذع المخ، وهو التعريف الذى يسمح بأنه خلال ساعات معدودة يمكننا الاستفادة بأعضاء الشخص المتوفى وزراعتها فى جسم مريض محتاج. ورغم تبنى دول العالم هذا التعريف ووضعها قوانين وإجراءات تنظم هذه العملية نظل نحن مترددين بل وممانعين، ويرجع ذلك إلى حجج غريبة. الحجة الأولى هى أنه علينا أن نترك المريض المحتاج يموت حتى لا نؤخر لقاءه بربه، وهذه حجة يمكن أن تطيح بمفهوم الطب كله، ونمنع الناس من تعاطى المضادات الحيوية والأمصال التى تقاوم الفيروسات. الحجة الثانية هى أن الجثة ملك الله. وهذا أمر بدهي، فمن حيث المبدأ كل شيء فى هذا الكون ملك الله ولكن من حق الإنسان التصرف فيه بما يحقق المنفعة العامة. الحجة الثالثة هى أن للموتى حرمة ولا يجوز الاقتراب منها. وهذا مفهوم قديم كان سائدا لدى كل الثقافات القديمة وعلى رأسها مصر الفرعونية يتعلق بقدسية الجثة. وكان الأطباء فى العصور الوسطى فى البلاد الإسلامية وفى أوروبا يشرحون الحيوانات ليفهموا كيف يعمل جسم الإنسان. وفى الصين الحديثة فى أربعينيات القرن العشرين تعاقدت إحدى الجامعات مع أحد أساتذة الطب الفرنسيين لتدريس الجراحة، وفى مجلس الكلية طلب الأستاذ توفير جثة فأصيب جميع أعضاء المجلس بالذعر وسألوه لماذا؟ فقال لتشريحها أمام الطلاب لأغراض تعليمية. فقالوا له: لا تقترب من أى جثة وإن كان ولابد فسوف نأتى لك بأحد المجرمين الأحياء لتشرحه كيفما شئت. الآن واكبت الصين العصر وتخلصت من هذا الحظر. المشكلة أن أغلب هذه الحجج منبعها فتاوى رجال الدين، والغريب أيضاً أن جميع البلاد الإسلامية وعلى رأسها المملكة السعودية قد وافقت على نقل الأعضاء من الموتى ومن سنوات طويلة. ولكن يظل الكثير من رجال الدين فى مصر متنمرين لوأد أى أمل فى مواكبة ما يجرى من حولنا فى هذا الشأن، حتى إنه حينما صرح فضيلة الشيخ طنطاوى شيخ الأزهر بأنه لا يرى غضاضة فى زراعة الأعضاء من الموتى للأحياء وأنه يترك جسمه صدقة جارية بعد وفاته ليستفيد منه المرضى المحتاجون، تعرض لهجوم رجال الدين وهجوم الإخوان المسلمين الذين بذل أعضاؤهم فى مجلس الشعب جهدا لمنع إصدار قانون زراعة الأعضاء. وينصحنا آخرون بالإنتظار لحين نجاح الطب فى تكوين أعضاء عن طريق تكاثر الخلايا الجذعية دونما حاجة لاستعارتها من أجسام الموتي، هذا بالفعل ما يراهن عليه العلم ولكن فيما يبدو أن الطريق ما زال طويلا. تتردد أيضا حجة وجوب استئذان أهل المتوفى وهى حجة غريبة فحتى لو وافق منهم أحد سيتهمه الآخرون بالتفريط فى جثة قريبهم، فهى بمثابة وضع العقدة فى المنشار، كما أنها تفترض أن جثة المتوفى هى جزء من الميراث الذى يتركه لأبنائه. ولهذا فحكاية الاستئذان هذه غير معمول بها فى أى مجتمع.
الجثة ملك من؟ معضلة قانونية تم حلها باعتبار الجثة ملك صاحبها وبالتالى صار التشريع فى طريقين: الأول هو أن يعلن المتوفى فى حياته أنه موافق على التبرع بأعضائه بعد موته وهو المعمول به فى أمريكا. الطريق الثانى هو أن نعتبر كل أفراد المجتمع متبرعين تلقائيا ما لم يسجل الإنسان فى حياته رفضه أخذ أعضاء منه وهو المعمول به فى فرنسا.
ومما يدل على تخبط مجتمعنا أن هناك قانوناصدر بالفعل يقر بزراعة الأعضاء من الموتى عام 2010 ويتضمن نص القانون صدور اللائحة التنفيذية له بعد ثلاثة أشهر من صدوره من مجلس الشعب.
وقد مرت ثمانى سنوات ولم تظهر اللائحة التنفيذية بعد! الضحية الأولى لكل هذا التخبط كالعادة هم الفقراء. فالأغنياء يركبون الطائرات ويذهبون إلى البلاد التى لاتوجد بها هذه المحاذير، أما المرضى المحتاجون من الفقراء فلا يملكون ما يسمح لهم بذلك، بل حتى الأصحاء منهم أحيانا يضطرون تحت قناع التبرع لبيع كلية أو جزء من الكبد لأنهم يحتاجون للمال، فى حين أننا لو استفدنا بأعضاء الموتى لما كانت هناك حاجة للتبرع من الأحياء.
لمزيد من مقالات ◀ د. أنور مغيث رابط دائم: