مصر هى المكان الوحيد الذى يعيش فيه الإخوة السوريون خارج بلادهم بكل حرية وليس فى مخيمات او معسكرات كما هو حالهم بالدول الأخرى ..بل على العكس يمتزجون مع إخوتهم المصريين، ويقيمون مشروعات استثمارية فى أرض الكنانة. سعدت كثيرا حينما رأيت مشاريعهم فى مدينة 6 اكتوبر وتداخلهم مع إخوتهم المصريين فى اعمال مشتركة، وشعرت بأمومة مصر الحقيقية التى تفتح ذراعيها لكل الإخوة العرب. فمصر هى بيت العرب وبيت من ليس له بيت، لأنها فعلا أم الدنيا.
وهذا الاحتواء والاحتفاء شهدت به وسائل إعلام عالمية ،ومنها هيئة الإذاعة البريطانية التى بثت تقريرا مفصلا عما يتمتع به السوريون فى مصر من حرية فى الإقامة والعمل، وأبرزت المشاريع التى اقاموها فى مدينة 6 أكتوبر وغيرها من المدن المصرية، والحقيقة ان مقاربتها كانت افضل من أعمال إعلامية سبق ان بثت على بعض الفضائيات المصرية حول هذا الموضوع. ولا شك أن أى إعلام محترف لديه الحد الأدنى من المعرفة بحقائق الجغرافيا والتاريخ، سيتوصل الى حقيقة احتضان أم الدنيا لأشقائنا السوريين، لتواصل فطرتها وأمومتها لكل العرب، ليس فى هذه الأيام فقط وإنما من قديم الزمان ولا يقتصر الأمر على السوريين ، وإنما يوجد بمصر ملايين من الإخوة السودانيين ومن قبلهم الفلسطينيون، وفى جميع الأحوال تجلت رحابة مصر دولة وشعبا فى استقبال الأشقاء فى أرجاء ربوعها وليس حشرهم فى مخيم او معسكر. فالترحيب بالأشقاء فطرة وفطنة مصرية منذ القدم ، حيث تستوعب أم الدنيا أبناءها العرب كلما احتاجوا الى ذلك، ليس فقط لمجرد الإقامة بحرية وإنما لينجحوا ويتميزوا، وكلنا نذكر آثار الشوام الذين هاجروا إلى مصر فى أوائل القرن التاسع عشر أو مع تأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد على باشا، حيث كانت الشام تعيش حالة من التعصب الدينى والانغلاق الطائفى والظلم الاجتماعى وغياب الحرية، إضافة لقلة الموارد، بينما كانت مصر تعيش لحظة تحول كبير بسبب النهضة الحديثة التى بدأتها مبكرا، فوجد الشوام فى القاهرة ملجأ آمنا وترحيبا سخيا فكانت إقامتهم بأريحية وفرت لهم القدرة على النجاح والإبداع ، ولا تزال آثارهم بين أيدينا نطالعها كل صباح ، فمن بين أولئك الشوام سليم وبشارة تقلا اللذان أسسا صحيفة الأهرام عام 1875، وجورجى زيدان الذى اصدر مجلة الهلال عام 1892.ولا تزال الصحيفتان تصدران بمصر، وقبلهما اصدر سليم الحموى صحيفة كوكب الشرق بالإسكندرية 1873.
وبرز بعض الإخوة الشوام فى مجال المسرح فقد أسس سليم نقاش أول فرقة مسرحية عرضت على قصر زيزينيا عام 1876.كما انتشر الإخوة السوريون واللبنانيون فى مختلف المهن والصناعات بمصر ، ومن أراد ان يتعرف أكثر على هذه الحقائق يمكنه مطالعة كتاب «هجرة الشوام.. الهجرة اللبنانية إلى مصر» لمسعود ضاهر الذى صدر منذ ربع قرن وأعيد طباعته عام 2009 والذى يستعرض العديد من الأنشطة التى عمل بها الشوام بمصر ومنها أعمال الطباعة والترجمة والنشر والأنشطة الثقافية والصناعات الحديثة من زيوت وصابون وعطور وتبغ وأسلحة وحلج القطن والأنشطة التجارية والمضاربات والسمسرة وأعمال البورصة.
ويؤكد الكتاب أنه طوال تاريخهم لم يتعرض المهاجرون الشوام فى مصر للاضطهاد يوما بسبب الدين أو الانتماء السياسى. ويشير إلى أن الكثيرين من أبناء الجالية الشامية درسوا فى الأزهر الشريف وبعضهم استمر بمصر، بينما عاد البعض الآخر إلى بلادهم ، ومنهم رشيد كرامى وأمين الحافظ اللذان صار كل منهما رئيسا للوزراء فى لبنان! ولا يمكن ذكر كل الأعلام اللبنانيين الذين استقروا بمصر و يكفى ذكر أمثال الشيخ رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده وصاحب صحيفة المنار والمؤرخ عبدالرحمن الرافعى. وفى مجال الفن والأدب لا يمكن حصر أشقائنا العرب الذين برعوا فى مصر مثل بيرم التونسى وفريد الأطرش ونجيب الريحانى ووردة الجزائرية. هذه الصورة الجميلة لا نستدعيها اليوم بقصد الفخر ولا الامتنان وإنما لنعرض لغيرنا كيف نعامل أشقاءنا فى بلدهم الثانى مصر على مدار التاريخ، ردا على بعض الفيديوهات التى تم تداولها أخيرا على صفحات التواصل الاجتماعى لتعرض بعض العاملين المصريين بالدول العربية لمعاملة سيئة، وان كنا نعلم أنها حالات فردية لا تمثل طبيعة الشعوب العربية الشقيقة التى تكن كل التقدير والاحترام لمصر وشعبها ، وهو ما يلمسه المصريون الذين يعملون فى عدد من الدول العربية ويعبرون عنه فى لقاءاتهم الخاصة وفى كتاباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
لمزيد من مقالات د. محمد يونس رابط دائم: