كان معارضو السادات يقولون إن كيسنجر وزير خارجية أمريكا الأشهر، لعب بالسادات وبالمنطقة كلها لحساب إسرائيل، ورغم أن الكلام يبدو مبالغا فيه، لكن العودة إلى كتاب كيسنجر «الأسلحة النووية والسياسة الخارجية» الذى طرح خلاله فكرة الحروب الصغيرة تقول إنه كان يلعب بالفعل أو يجرب ألعابه «أفكاره» على أرض الواقع، فبعد 16 عاما من إصدار كتابه وبعد أن أصبح الكتاب يمثل فلسفة ثابتة للسياسة الأمريكية، جاء كيسنجر للمنطقة عام 1973 ليكون شاهدا وفاعلا فى الحرب القائمة بين مصر وإسرائيل.
فبدلا من أن تضغط أمريكا على إسرائيل لتعيد الأرض التى احتلتها عام 1967، فإنها اكتفت برعاية مبادرات فاشلة كمبادرة روجرز، دون التوصل إلى أى نتيجة، فالهدف الأمريكى لم يكن أبدا السلام ولا عودة الأرض لأصحابها، وإنما كان دائما إشعال الحروب التى سماها كيسنجر «الحروب الصغيرة» وهى جزء من المواجهة المستمرة بين أمريكا وروسيا.
جاء كيسنجر إلى القاهرة للمرة الأولى فى 6 نوفمبر 1973 ليصبح اللاعب الأساسى على مسرح أحداث الشرق الأوسط.
أجرى مفاوضات مع السادات كان نتيجتها وضع اتفاقية النقاط الست التى تقضى بالالتزام بوقف إطلاق النار والعودة لخطوط 22 أكتوبر، ثم وصل إلى أسوان فى 11 يناير 1974 منتهجا دبلوماسية المكوك كما قيل بين أسوان والقدس، أعلن بعدها الوصول إلى اتفاقية فك الاشتباك.
وخلال هذه المفاوضات كان كيسنجر يستخدم كل ألاعيبه وحيله مع السادات بعيدا عن المفاوضين الشرسين مثل إسماعيل فهمى وزير الخارجية أو المشير عبد الغنى الجمسى رئيس الأركان الذى كان قد أجرى مفاوضات الكيلو 101 مع الإسرائيليين.
وقد فوجىء الجمسى فى أثناء المفاوضات بكيسنجر يعلن موافقة السادات على تخفيض حجم القوات على الضفة الشرقية للقناة إلى 7000 رجل و30 دبابة وعدد محدود من المدفعية، ولذلك غضب المشير الجمسى كما ذكر فى مذكراته وقال له: أنت تعطى إسرائيل كل ما يضمن تأمين قوتها، وتحرمنا من كل ما يضمن تأمين قوتنا، إنى لا أوافق على ذلك، ولا يمكن كرئيس أركان حرب القوات المسلحة إيجاد المبرر له. فقال كيسنجر: إننى أضع استراتيجية للسلام مستقبلا.
رد الجمسي: أنا لا أتحدث عن السلام ولكن أتحدث عن تأمين قواتنا.
يقول الجمسى وتركت غرفة الاجتماع بعد أن اغرورقت عيناى بالدموع، واتجهت إلى الحمام، وتململ كل أعضاء الوفد المصرى وشحب لون كيسنجر وظل يتمتم قائلا: ما الخطأ الذى قلته.
ويروى الجمسى أن السادات استدعاه وقال له: إن حجم القوات يجب ألا يكون عائقا أمام فض الاشتباك.
فقلت له: إن حجم القوات المقترح لا يحقق الدفاع عن الأرض التى حررتها قواتنا بمواجهة 100 كيلو متر، وضرورة الاحتفاظ بفرقتين من المشاة مدعمتين بنحو 35 ألف مقاتل و300 دبابة وعدد كبير من قطع المدفعية، ورد الرئيس بأنه يحملنى وضع الخطة المناسبة للدفاع عن شرق القناة بالقوات التى حددها!
كان السادات يتفاوض منفردا، وكان كيسنجر فى مهمة إنقاذ لإسرائيل من أنياب الجيش المصرى العظيم، وكان الحل هذه المرة بهجوم السلام، الذى وضع بذرته كيسنجر بهذه الشروط المجحفة لفض الاشتباك، مما جعل السادات متهافتا على السلام بأى شكل. فالوضع لم يجعل للسادات خيارا آخر غير السلام مهما كان الثمن، وهو ما حدث بعد ذلك فى كامب ديفيد. وليس معنى السلام أن مصر صارت دولة صديقة لأمريكا وإسرائيل، كما ظن السادات، فالموضوع كان يعنى بالنسبة لكيسنجر وأمريكا تغيير وسيلة الحرب فقط. فأصبحت الحرب ضد مصر اقتصادية، ودخل قراصنة الاقتصاد وبدأت سياسة إغراق مصر بالقروض وعمليات الخصخصة وتدمير القطاع العام لمصلحة الرأسمالية المتوحشة.
وانتقلت حروب الوكالة الصغيرة طبقا لنظرية كيسنجر إلى أماكن أخرى مثل العراق وإيران وحرب الكويت، ثم احتلال العراق وحروب سوريا وليبيا واليمن، والحبل على الجرار.
لمزيد من مقالات محسن عبدالعزيز رابط دائم: