أكتب إليك حكايتى عسى أن تكون درسا وعبرة للآخرين وأن يستفيدوا منها فى حياتهم، ويدركوا أن الحياة بها جوانب مشرقة يجب أن نتطلع إليها، ولا نركز على النواحى المظلمة التى تنعكس بالسلب علينا، فأنا شاب فى الثلاثين من عمرى، نشأت فى أسرة متوسطة لأب حاصل على مؤهل متوسط، وأم ربة منزل، ولى ثلاثة أشقاء، ولدان أكبر منى، وبنت تصغرنى بعدة سنوات، وتحمّلت أمى مسئوليتنا نظرا لسفر أبى المتكرر إلى الخارج للعمل فى أكثر من دولة عربية، وجمعتنا الألفة والمودة والحب، ولم يعكر صفو حياتنا شئ، ثم كانت المفاجأة الحزينة أن والدتى أصيبت بمرض لازمها فترة طويلة، وجعلها أسيرة الفراش، فالتففنا حولها، وبذلنا كل ما فى وسعنا لتخفيف آلامها، ولم يكن أبى موجودا فى مصر وقتها، وذات يوم اشتد عليها المرض، وفاضت روحها إلى بارئها، ونحن فى حالة يرثى لها، ولم تمض شهور حتى جاء أبى فى أجازة قصيرة، ولم يتحدث معنا فى شئ، وعرفنا أنه يفكر فى الزواج بأخرى، وشعرت وقتها بغصّة فى حلقى، ولاحظت علامات الحزن والأسى على وجوه أشقائى، خصوصا عندما علمنا أن زوجة أبى المنتظرة فتاة فى سن العشرين، أى أنها تماثل شقيقى الأكبر فى العمر، وكان وقتها فى السنة الثانية بالجامعة، وحصل شقيقى الذى يليه على شهادة متوسطة، وعمل فى مجال السفن والبحار، أما شقيقتى وهى أصغرنا، فقد أخذتها خالتى وزوجها، وتوليا تربيتها ورعايتها.
وأتم والدى زواجه ممن اختارها شريكة لحياته بعد رحيل أمى، ولا أعرف من الذى رشحها له، وعلمنا أن الظروف القاسية التى تعانيها وراء موافقتها على الارتباط به، إذ لم تنل أى قسط من التعليم، وتوفيت أمها، وتزوج أبوها بأخرى، وعانت الأمرين من معاملتها لها، فأرادت أن تتخلص من هذا العذاب بالزواج من أبى، والحق أنها تعاملت معنا بشكل محترم، وهى مؤدبة وخلوقة، لكنى من الناحية النفسية لم أرتح لها، ولم أتصور أن أرى بديلة لأمى فى البيت، وبعد زواجهما بفترة قصيرة سافر أبى كعادته، وتركنا معها، ولم تكن خالتى هى الأخرى راضية عن هذه الزيجة، وتولت هى وزوجها رعايتنا، ومتابعتنا، وصرنا نحن الأربعة أبناء لهما، إذ لم يرزقهما الله بأطفال، ولا أستطيع أن أصف لك الإحساس الجميل عندما كنا بصحبتهما، إذ شعرنا أنهما أبوانا، وكم كنت سعيدا، كلما اتصل بى زوج خالتى لسؤالى عما فعلته بخصوص موضوع ما، حدثته عنه قبلها بيوم أو يومين.. هذا فى الوقت الذى انشغل فيه أبى بزوجته، التى أنجبت له ولدا وبنتا صارا أخين لنا، وصرف ببذخ كل ما بحوزته من مال، ولم يدخر شيئا للزمن، والشئ الوحيد الذى أنجزه من عائد سنين الغربة هو بناء البيت الذى نسكن فيه!
وقد تزوج شقيقى الثانى، واستقل بحياته، وعشت مع أبى وزوجته وأخوىّ منهما، وخرجت إلى العمل فى سن السادسة عشرة، وأتممت دراستى فى مدرسة فنية بالتوازى مع عملى، وعرض علىّ شقيقى الأكبر أن أعمل بالبحار على سفن تجارية مثله، فلم أتردد هروبا من مرارة البيت، والظروف الصعبة التى عشتها منذ رحيل أمى، بينما واصلت شقيقتى حياتها مع خالتى وزوجها، وتخرجت فى الجامعة، وبدأ العرسان يطلبونها للزواج، فتوليا مهمة اختيار الأنسب لها، وكان والدى فى ذلك الوقت قد أصيب بوعكة صحية، ولازم الفراش فترة طويلة، ثم رحل عن الحياة، ولم تكن أختى قد تزوجت بعد، وشمّر زوج خالتنا عن ساعديه، وجهّزها بكل ما يلزمها من أثاث، وأقام لها حفل زفاف كبيرا، ثمّ انتقلت إلى بيت زوجها هادئة مطمئنة، ونحرص جميعا على زيارتها بانتظام.
ولم يتبق سواى بلا زواج، وقد أقدمت على تجربة لم يكتب لها النجاح، وطويتها من حياتى، وقررت أن أمهل نفسى بعض الوقت قبل خوض تجربة جديدة، وفى أحد الأيام داعبتنى خالتى بأنها تريد أن تفرح بى، وتطمئن علىّ كما اطمأنت على أشقائى، ورشحت لى فتاة من عائلة محافظة ومعروفة فى المنطقة التى نعيش فيها، وقالت لى إن والدتها كانت صديقة لوالدتى، وأنها ستوفر لى فرصة لرؤيتها والحديث معها، وما أن رأيتها حتى سكن قلبى ارتياح غير عادى، أو قل هو ارتياح من نوع خاص، وبالفعل تقدمت إليها بصحبة زوج خالتى وخطبتها، ووجدت من أهلها كل المؤازرة والتعاون، فوالدها رجل فاضل زلّل لى كل الصعاب، وعندما بدأت فى بناء شقة لى بالمنزل، فوجئت بخطيبتى تعطينى مبلغا كبيرا كمساعدة فى البناء، وأهدتنى خالتى مبلغا مساهمة منها فى التشطيب، وكما فعلوا مع أشقائى لم يتركوا كبيرة ولا صغيرة فى أثاث الزوجية إلا وساهموا فيها.
إننى مهما وصفت لك الحب الذى جمعنا بخالتى وزوجها لن أستطيع أن ألم بخيوطه، فهى متشعبة فى داخلنا جميعا، ومازالت تظلل حياتنا، فهما أبوان مثاليان، وقد صبرا على تربيتنا أكثر مما فعل والدنا، وما كلماتى إليك إلا عرفان بفضلهما وجميلهما، وكم أتمنى أن يحذو حذوهما الجميع، فلقد توارت المبادئ والقيم والمثل فى هذا الزمن، وعندما يكون هناك «نموذج رائع» بهذه الصورة الجميلة، فإنه ينثر أريجه الفواح، ويجعل للحياة قيمة ومعنى، فلهما كل الحب، وشكرا على بريدك الهادف الذى نتعلم الكثير من تجارب قرائه كل جمعة، وننتظره بلهفة وشوق من أسبوع إلى أسبوع.
< ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لولا النفوس الطيبة لكانت الحياة قاسية، ولا تطاق ـ على تعبير هيلين كيلر ـ وقد ساق الله إليكم نفسين طيبتين عامرتين بالإيمان، ومؤمنتين بقضائه وقدره، بحرمانهما من الإنجاب، فسعد الجميع، أنت وأشقاؤك بوجود أب وأم «بديلين»، وخالتك وزوجها بك وبأشقائك كأبناء لهما، وربما ما كانت هذه السعادة لتتحقق لهما لو أنهما رزقا بأبناء من صلبهما.. إنها الحياة التى لا يعلم أسرارها إلا علام الغيوب، وهى تعلمنا أن الله مع الصابرين يؤيدهم، ويثبتهم، ويقويهم، ويؤنسهم، ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم، ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة، وقوتهم الضعيفة، وإنما يمدهم حين ينفد زادهم، ويجدد عزيمتهم عندما يطول بهم الطريق.. لقد صبرا على عدم الإنجاب، فذاقا حلاوته فيكم، ربما أكثر من أبيك وأنتم من صلبه، فالصبر كنز من الخير لا يعطيه الله جل وعلا إلاّ للكريم عنده، لقوله تعالى: «لتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ» (آل عمران(186 ، ويكفى أن أجور كل الناس تكون بقدر محسوب إلاّ أجر الصابرين، حيث يقول عز وجل: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (الزمر10)، وسيكون الجزاء الأوفى لهما يوم القيامة.
إن خالتك وزوجها يتسمان بصفات عديدة أهّلتهما لأن يصنعا صنيعهما الجميل معكم منها، قوة البناء النفسى، واتساع الأفق وبعد النظر، والهدوء والإطمئنان، ولذلك جاءت النتيجة على النحو الرائع الذى فعلاه معكم، واتسمت نفساهما بالتَّواضع، والإيثار، والتوكل على الله، والبر والتقوى، والإقبال على الله، وقد عملا بقانون الإنسانيَّة الفطرى، وسعيا إلى الهدوء والسكينة فى حياتهما، واتسما بالصبر الجميل.
وما أنبه إليه هنا هو أن الصبر على النتائج ليس سكونا مميتا أو انتظارا سلبيا، وإنما هو جهاد مستمر، وحركة دائبة تستحضر فى طياتها رعاية جادة لطبيعة المرحلة، وتقديرا دقيقا لمعطيات الحال، وآثار المآل، ومن عاين بعين البصيرة عواقب الأمور نال المراد، ومن غلّب الحس، عاد عليه بالألم مما طلب منه السلامة، وفى ذلك يقول تعالى: «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُم» (الأحقاف35)، وما فعلاه معكم يستحقان الثناء عليه، وقد قرن الله فى القرآن الكريم الشكر له بالشكر للوالدين فى قوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» (لقمان 14)، وهذا يبين لنا أن ما يقدمه الوالدان من فضل لأبنائهما، وسهر على تربيتهم، وعناء فى توفير الحياة الكريمة لهم، أمر يجعله جديرا بأن يكون قرينا لشكر الخالق عز وجل، فالله خلق ورزق، والوالدان تعبا وشقيا فى العناية والرعاية لأبنائهما، وفى قصتك يقوم مقامهما خالتك وزوجها، ويحق لهما هذا الفضل أكثر من والديك.
إننى أوجه الشكر والتحية لهما ليس فقط لصنيعهما معكم وهو كثير، وإنما لما يعطيانه للآخرين من دروس وعبر، إذ يخطئ من يتصور أن النفس المطمئنة، هى نفس لا تتعرض للأزمات، ولا للآلام، وتعيش الجنة فى الأرض دون هم أو حزن، ويعتقدون أن اطمئنان النفس يأتى من عدم التعرض للاختبارات، فالحقيقة أن هذا الإطمئنان يتحقق بالرضا بنتيجة اختبارات الحياة التى يقدرها الله لعبده، فمهما تكن صعبة يرضاها المؤمن ولا يسخط ولا يسعى إلى الهروب من النتيجة، فحين يتعرض لاختبار منع الرزق أو الحرمان مما يراه متوافرا عند آخرين من أى نعمة كالإنجاب مثلا، يرضى بما قسمه الله، وتطمئن نفسه لحكمة ربه.. نعم يطمئن برغم الصبر الثقيل، وآلام الانتظار، ويتمسك بالدعاء واللجوء لله.
إن الاطمئنان والرضا أسلوب حياة يعلمه الله عباده الذين اصطفى، فنجد الدعاء يطول معهم، ويزيد يقينهم بالله، ويستبشرون بكل خير لغيرهم، ويفرحون له، ويسعون لإسعاد من حولهم، وهذا ليس موجودا إلا لدى ذوى النفوس المطمئنة التى لم يفعل بها الحزن والألم ما فعله فى آخرين قابلوا الحزن بالانتقام، والألم بتمنى المرض للآخرين، والصبر بالسخط، وسعادة الآخرين بالحسد المذموم.. إن أصحاب النفوس المطمئنة أناس اختارهم الله أبطالا للحياة، لا يقابل بطولتهم الجمهور بالتصفيق، لكنهم عند الله، هم المميزون، ومن يذكرهم الله فيمن عنده بفرحة، ويحب سماع دعائهم، ويرفع عنده ذكرهم بدرجة يتمنى كل إنسان أن يصل إليها.
فتعلم أنت وأشقاؤك هذا الدرس البليغ من خالتك وزوجها، وكونوا أصحاب نفوس صافية مع الجميع، وصلوا أخويكما من أبيكما وزوجته، فهى لم تسئ إليكم، بل إننى أراها ضحية الجميع بمن فيهم أبوها الذى زوّجها لأبيكم برغم فارق السن الكبير بينهما، والذى وجدت فى الارتباط به خلاصا من المتاعب التى كانت تعانيها فى بيتهم، وليس زوجا ترغبه مثل كل الفتيات فى السن التى تزوجت فيها.
وأرجو أن يتعلم كل فرد عدم التبذير، وأن يكون وسطا فى كل شئ، ويتذكر دائما قوله تعالى: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا» (الإسراء 28)، وأن يحذو حذو خالتك وزوجها فى الحياة بما قدما من أعمال صالحة، حيث يقول عز وجل: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (النحل97)، فهنيئا لهما صنيعهما، وأسأل الله لكم التوفيق والسداد.
رابط دائم: