قد يظن البعض أن شهادتهم للتاريخ عن التاريخ أمر يخصهم وحدهم، لأنه لا رادع مثلما هو الحال عند الشهادة أمام القضاء الجالس، وهى روادع من قبيل هيبة المكان أولًا، وهيبة مقام القضاة بأوشحتهم، والنيابة بالأوشحة أيضًا فى جانب آخر.. والسكرتارية.. والحاجب الذى يصيح فإذا بالجميع وقوف فى صمت ومن أشعل لفافة يطفئها ومن ألحّت عليه الحاجة للسعال كبتها.. ثم تأتى المناداة بالاسم وبعدها القسم بالله العظيم على قول الحق ولا شيء غير الحق.. ثم يبدأ التمحيص والتقليب والاعتصار بأسئلة الادعاء وأسئلة الدفاع وأسئلة الهيئة الموقرة ذاتها.. ويا بئس مصير من يقول باطلًا أو يخلط حقًا بباطل أو يطلق العنان لخياله فينشئ وقائع أو يقحم شخوصًا لا علاقة لهم بالأمر، وهلم جرا من مسببات بطلان الشهادة!
ولقد تكرر وضع عناوين من قبيل «شاهد على العصر» أو «شهادتى على كذا وكيت» أو «فلان يكشف المستور فى شهادته» وكثيرًا ما يكتب البعض عن أنهم كتبوا شهادتهم ثم يحاولون مسبقًا مصادرة الرأى الآخر، فيقسمون أنهم لم يقولوا إلا الحق، ويلوحون بأنهم يعرفون أن هذا الحق سيدفع آخرين للتشويش عليهم والقدح فيهم والتشكيك فى ذمتهم الأدبية!
وعن نفسى فقد عشت السنين التى تراكمت بعد رحيل جمال عبد الناصر.. ولم يمض عام إلا وسيول المقالات والكتب والكراسات والأحاديث المبثوثة إذاعيا وتليفزيونيا والندوات التى خصصت لها الميزانيات والقاعات، وكان الهدف، خاصة بعد مايو 1971، هو الهجوم والقدح والتهجم، وقل ما شئت من مرادفات تحمل المعنى نفسه.. عشت ما كتبه وما قاله الكشكان.. أى جلال كشك والشيخ كشك.. والجلالان أى كشك والحمامصي، وخذ عندك قائمة فيها موسى صبرى وصالح جودت وأنيس منصور ومصطفى وعلى أمين حتى بغدادى وكمال حسين وبقية من اعتبروا أنفسهم ممارسين لفضيلة الصمت وآن الأوان ليتكلموا.. وعشرات الأسماء التى تلت أولئك الذين مضوا حتى وصلنا للمقاول الذى نشر مذكراته وفيها صورة له مع جمال عبد الناصر، وكتب المقاول تحتها «النظام ينحنى لصاحب المذكرات»!
كلام.. كله وصفه أصحابه بأنه شهادة، ومنه ما انتمى إلى أحط قيعان المستنقعات الآسنة النتنة، وما اختلط فيه الخيال بالكذب بالادعاء وخلافه.. وبالطبع كان هناك سيل من الأموال بلا حدود يتدفق من خزائن نفطية بعينها من أجل اغتيال شخصية عبد الناصر ووصم ثورة يوليو بكل ما يمكن الوصول إليه فى قاموس النقائص!
ولو أن التاريخ الذى يقدمون له الشهادة أشيع أنه يمتلك- ولو للحظة واحدة- سلطة الاستجواب والتمحيص والحبس والسجن، إذا لزم الأمر، لبحث كثيرون عن جهة أخرى ولتكن الطب النفسى ومعه التحليل النفسى مثلًا!
ولأن كل هؤلاء الذين يظنون بجهل عصامى يحصنهم ضد أى فهم أن العملية سبهللة، وأن ما عندهم ومزنوقين فيه فهو من شأنهم، ولهم أن يفكوا زنقتهم بالطريقة التى تريحهم، لأنه لا قاعة ولا حاجب ولا نيابة ولا قضاة ولا «خذه يا عسكرى وضعه فى القفص»!
لا يعرفون أن للتاريخ سطوة أشد وأقسى، وفيه بدلا عن القفص والسجن مزبلة تستقبل نفايات سقط القول.. واختلاقات الخيالات المريضة!
إنهم لا يعرفون أن الشهادات- سواء كانت شفهية يدلى بها المصدر المعايش للأحداث إلى من يسجلها أو إلى من يريدها مصدرا رئيسا فى بحثه، أو كانت تحريرية فى مذكرات أو ذكريات وغيرها- لا بد وستخضع لما اعتبره مجازا غرفة عمليات البحث التاريخي.. حيث «المسرح» مثلما هو مكان عمل «طبيب الجراحة» وحيث الأدوات التى هى هنا الأدوات المنهجية النقدية صارمة المعايير بدلًا من المشارط والإبر والخيوط فى حالة مسرح الجراحة!
ولأن الأمر فى المعرفة الإنسانية متصل الحلقات فإن هذه الضوابط المنهجية التاريخية ارتبطت فى بعض جوانبها بما أبدعه علماء الحديث، أى الرواية، عن النبى صلى الله عليه وسلم، من ضوابط وأصول منهجية كان منها البحث فى أصل وتكوين شخص من جاء يقول إنه يروى «يشهد» أن الرسول قال كذا وكذا!
هل هو شخص صاحب سجل لا شبهة فيه لكذب أو اختلاق أو تربح أو انتهازية أو صمت فى اللحظة التى تعين فيها على كل حر أن يتكلم! وما زال فى الجعبة الكثير عن ضوابط الشهادات التاريخية، وفيها ما هو أكثر عن بعض الشهادات التى تطل علينا هذه الأيام، وفيها تختلط الشهادات بالشهوات، حيث الشهوة جامحة لا تراعى حرمة ولا ذمة ولا تعرف قيمة ولا معيارا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لمزيد من مقالات ◀ أحمد الجمال رابط دائم: