عندما ينتقل مفهوم الصفقة من عالم المال والأعمال إلى عالم السياسة، فإن ذلك لا يمثل فحسب مجرد تبسيط واختزال التعقيد الكامن فى عالم السياسة، خاصة عندما يتعلق الأمر بصراع ممتد يتجاوز المائة عام كالصراع العربى الإسرائيلى، بل يمثل فى حقيقة الأمر غياب العقل السياسى، أو على الأقل خللا كبيرا فى معايير وقواعد ومبادئ المقاربة والأحكام، ذلك أن كلا العالمين عالم المال والأعمال وعالم السياسة وخاصة القضية الفلسطينية، تفصل بينهما هوة سحيقة من المفاهيم والقواعد والآليات، فالأول أى عالم المال والأعمال تشغل فيه قيمة المال والحساب والمكاسب المادية الحيز الأكبر من دوافعه، فى حين أن عالم السياسة خاصة المتعلقة بالموضوع الفلسطينى يزخر بمفاهيم السيادة والكرامة والاستقلال والتحرر من الاحتلال والحرية وهى مفاهيم تتجاوز بكثير حسابات المكسب والخسارة والربح والعائد.
ورغم صعوبة هذا الانتقال للمفهوم من عالم المال والأعمال إلى عالم السياسة والقضية الفلسطينية، وما يعترى هذا الانتقال من تبسيط وخلل فى المعايير والمبادئ والقياس, فإن الصفقة المزعومة التى يعكف على صياغتها وبلورتها فريق من الخبراء العقاريين فاقدى الخبرة والخلفية فى الشرق الأوسط، فريق عائلى بزعامة ترامب، لم تراع القاعدة الأساسية المعمول بها فى أية صفقة تجارية، أى أن أية صفقة تتم بالضرورة بين طرفين يقبلان غير مرغمين أو كارهين بمحتواها ومضمونها، وإنما يزعم أصحاب هذه الصفقة تمريرها وتنفيذها رغم رفض الجانب الفلسطينى لها ممثلا فى السلطة الشرعية للرئيس الفلسطينى محمود عباس، وهذا الرفض تأسس على القرارات الأمريكية التى اعترفت بالقدس ونقل السفارة الأمريكية إليها وإخراجها من مجال التفاوض والموقف الأمريكى من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا وانحياز الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مطلق لحليفتها إسرائيل، وهكذا فإن هذه الصفقة ينطبق عليها ما انطبق على المفاوضات التى كانت الإمبراطورية البريطانية تزمع إجراءها مع الوفد المصرى الممثل لثورة 1919 والشعب المصرى عندما قال ممثل الأمة الزعيم الراحل سعد زغلول إن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس أى أن بريطانيا تفاوض نفسها، ذلك أن الصفقة أو ما تسرب عنها أو نقل منها إلى الزعامة الفلسطينية يتم تدبيرها وصياغتها سرا بين الولايات المتحدة وإسرائيل أو بين البيت الأبيض وإسرائيل بعيدا حتى عن الخارجية الأمريكية.
قد لا يمكن الجزم بحقيقة هذه «الصفقة» ومعالمها، فهى تفتقد إلى أية معلومات رسمية أو وثائق رسمية توضح معالمها، ولكن ما نشر عنها أو ما تسرب منها فى المواقع الإلكترونية والصحف وما سبقها وما رافق الحديث عنها من قرارات الإدارة الأمريكية، يوضح مضمونها ومحتواها فالقدس واللاجئون والمستوطنات وحل الدولتين خارج التفاوض باستثناءعاصمة فلسطينية فى أبو ديس أو العيزرية، وكذلك السيادة والاستقلال والتحرر من الاحتلال، ماذا يبقى من القضية الفلسطينية؟ بل ما هى القضية الفلسطينية إذا ما استثنينا هذه البنود؟ وهل من الممكن استبدال كل هذه البنود التى تمثل جوهر النضال الفلسطينى ومحتواه بإنهاء معاناة غزة وإغاثتها، وهى المعاناة الناجمة عن الاحتلال والحصار الذى يقوم به، وتعويق حل الدولة الفلسطينية فى الضفة الغربية وغزة؟
والحال أن هذه الصفقة وأوهام إنهاء الصراع العربى الإسرائيلى والفلسطينى على الطريقة الأمريكية الإسرائيلية يبقى مصيرها غامضا، ويتعثر إخراجها رسميا إلى العلن، ويتأجل الإعلان عنها أكثر من مرة، ومحاولات تطويق الجانب الفلسطينى والعربى باعتباره الطرف الآخر منها أو ترغيبه وترهيبه ستبوء بالفشل، لأن الحلف الأمريكى الإسرائيلى قد يستطيع أن يفرض الحرب، ولكنه لن يستطيع أن يفرض تسوية تنهى القضية الفلسطينية، وتنهى معها القرارات والمبادئ القانونية الدولية التى تؤكد شرعية الحقوق الفلسطينية فى الدولة وإنهاء الاحتلال والقدس.
لدى الشعب الفلسطينى قدرة متجددة على رفض تلك المشروعات والمقترحات الخاصة بالسلام مع إسرائيل، والتى لا تتوافق مع الحد الأدنى من أمانيه الوطنية, واليوم أكثر من أى وقت مضى تبدو الحاجة إلى بعث رصيد الاحتجاج والرفض الفلسطينى لهذه الصفقة المشبوهة، بيد أن هذا الرفض ينبغى أن يتم فى إطار استراتيجية وطنية فلسطينية جامعة تستند إلى الصراحة والشفافية والتوافق الوطنى على التمسك بالمشروع الوطنى الفلسطينى، أول عناصر هذه الاستراتيجية إنهاء الانقسام بين غزة والضفة وحماس وفتح لقطع الطريق على استغلاق معاناة سكان غزة ضمن هذه الصفقة المشبوهة، أما ثانيها فيتمثل فى استمرار الرفض الشعبى والاحتجاج السلمى من قبل كافة الفئات فى مواجهة تجليات وتداعيات محاولات تنفيذ بعض بنود هذه الصفقة، وثالثا استمرار بعثة طرق أبواب المنظمات الدولية والحقوقية لتأييد حقوق الشعب الفلسطينى غير القابلة للتصرف بلغة هذه المنظمات ذاتها، أما رابع هذه العناصر فيتمثل فى تخلى القيادات الفصائلية عن اعتبارات الأيديولوجيا والمصالح الضيقة وإعلاء المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. بيد أن هذا الرفض الفلسطينى للصفقة وتداعياتها رغم أهميته القصوى لأنه يمثل النواة الصلبة فى إسقاطها، قد لا يكون كافيا لإنجاز هذه المهمة، ما لم يترافق مع تبلور وتشكل «ظهير عربى» نواته الأساسية مصر والمملكة الأردنية الهاشمية ومعهما بقية الدول العربية التى حضرت قمة الرياض الأخيرة ووافقت على بيانها الصادر عنها الذى أكد تأييد توجهات القيادة الفلسطينية واستمرار التمسك بالمبادرة العربية للسلام التى طرحت عام 2002 وتأييد المطالب العربية والفلسطينية فى الدولة على حدود عام 1967 والقدس الشرقية بعاصمتها وحل عادل لقضية اللاجئين.
لمزيد من مقالات ◀ د. عبد العليم محمد رابط دائم: