معقول هذا؟ هل نحن صحيح مازال لدينا صبيان وبنات قادرون على الفوز فى المنافسات، وإحراز الميداليات، ونيل البطولات؟ نعم واللهِ إن هذا الصنف مازال موجودًا بيننا ولم ينفد رصيده بعد.. وها هى نتائج أبطالنا فى إسبانيا أتت لتؤكد تلك الحقيقة، وتخزق عينيّ كل من سوّلت له نفسه الزعم بأن هذا البلد قد نضب معينه، وانقطع نسل نجاحاته، وتوقفت إبداعاته.
وسط الكرب العظيم، والغيظ الكظيم، اللذين أفشتهما بيننا كرة القدم خلال الأيام الأخيرة، بسبب المهانة التى لحقت بمنتخبنا الوطنى فى روسيا إثر صفر المونديال الكبير، جاءت نتائج أبنائنا المشاركين فى دورة ألعاب المتوسط الجارية حاليا فى إسبانيا لتنبهنا إلى شيء كنا قد نسيناه، وهو أن الرياضة ليست كرة القدم فحسب، بل هناك رياضات أخرى مازال شبابنا قادرين على التفوق والنبوغ فيها.. وبالتالى فمن الممكن- بل والضروري- أن نستعيد إيماننا بحقيقة أنه كما أن هناك نصفا فارغا كئيبا فى كوب الرياضة المصري، فإن ثمة نصفا آخر ملآنا يفيض بالبهجة والفرح والاستبشار.
قل لي- أعزك الله: هل سمعت هذه الأسماء من قبل .. فريدة عثمان، سارة سمير، أحمد سعد، دينا مشرف، رجب عبد الحي، محمد إيهاب، عبد الرحمن عرابي، يسرى حافظ، وليد سعيد؟ أشك فى أنك تعرفهم. إن هؤلاء الأبطال الرائعين شرفونا فى تلك الدورة فاقتنصوا الذهب اقتناصا من فم لاعبى دول عريقة تفوق إمكاناتهم إمكاناتنا بمراحل. ألا تلاحظون، يا ذوى العقول المستنيرة والأفئدة العامرة بالبصيرة، أن كل هؤلاء الأبطال جاءت إنجازاتهم فى الألعاب الفردية وليست الجماعية؟.. فإلى ماذا يشير ذلك؟ يشير ببساطة إلى أننا، نحن المصريين، إذا ترك كل واحد منا لنفسه، ومع نفسه، فإنه يبدع ويتألق ويكاد يسبق الريح، فإذا أخذناه فوضعناه ضمن منظومة جماعية، خاب وشاب وتعطلت عنده الأسباب.. فلماذا؟ قل لى يا هذا أنت لماذا؟.
آه.. أنا سأقول لك. إنه الفشل فى أداء العمل الجماعي. إننا يا سادة لم نتعود منذ نعومة الأظافر على العمل معا، ولم نتشرب مع لبن الأمهات روح الفريق. وبالتأكيد هناك سبب جوهرى وراء هذا العيب الخَلقى فى أرواحنا، وهو أننا لا يثق كل منا فى الآخر، ويريد كل واحد فينا أن يحرز الأهداف وحده ( حتى يصفق الجمهور له هو فقط). لأ والأكادة أننا ما ننفك نغنى صباح مساء: قبول الآخر.. قبول الآخر، مع أننا لا نتقبل الآخر ولا شكله ولا طينته.
وكى لا نكون قساة على أنفسنا أكثر من اللازم (تلك القسوة المزعومة لتبرير عجزنا والكسل).. فإن ما نحن فيه الآن ليس سوى جزء من ميراث تاريخى ثقيل ممتد من عشق الفردية وإدمان الأنانية (ويا عمّ يالّا نفسي). ألم تسأل نفسك ذات مرة: لماذا لا يباصى اللاعب فينا لزميله، فإن جاء على نفسه وفعلها، رمى الكرة له بعيدا بعيدا، فإما أن يخطفها الخصم منه أو تنكسر ساقه وهو يلاحقها؟.
نحن يا سادة عفاريت فى الإنجاز الفردي، فإن هم أدخلونا ضمن منظومة، فشلنا، وراح كل منا يبحث عن مجده الشخصى (أو خلاصه الشخصي)، حيث الآخر بالنسبة له إما حاسد، أو حاقد، أو موتور. كلنا لا نثق فى كلنا، وجميعنا يريد خطف اللقمة من أفواه جميعنا.. والدليل على هذا تعدد أصفار المونديال.
طيب يا فيلسوف زمانك وفريد عصرك وأوانك.. هل ثمة حلول لهذه المعضلة وتلك المشكلة؟ نعم هناك 3 حلول عاجلة، وألف من الحلول الآجلة.. فلنترك الآجلة ونستعرض العاجلة. أولا، يجب تضمين مناهجنا الدراسية تعليم النشء منذ الصغر كيفية العمل الجماعي، من خلال أنشطة مدرسية تحث على التعاون مع الآخرين لتحقيق الإنجاز، وزرع حقيقة أنك بدون الآخر لا تساوى شيئا (ألم ترهم فى اليابان يفعلون ذلك فى رياض أطفالهم؟).
وثانيا، تحويل مسار برامجنا الإعلامية، وتغطياتنا الصحفية، والدراما التليفزيونية، والأفلام السينمائية، بحيث يتم التركيز على ضرورة العمل الجمعي، وإلقاء الضوء على أى نجاح فى أية مؤسسة أو هيئة أو شركة يكون ناتجا عن المشاركة الجماعية، ومدح هذا السلوك، وفى الوقت نفسه ذم كل ما من شأنه ترسيخ الأنانية وإيثار الذات ولهف مجهود الآخرين بالباطل.
وأما الحل الثالث، فهو معاقبة كل من يثبت بالدليل القاطع انحيازه لمصلحته الشخصية على حساب المصلحة العامة (أو المال العام).. أليس هذا ما يسمونه ضرورة مكافحة الفساد؟.. وعلى فكرة تحدث الركبان هذه الأيام عن فسادات لها أول وليس لها آخر فى منظومة كرة القدم عندنا.. فماذا أنتم فاعلون؟ كما أريقت أحبار كثيرة على ورق الصحف تحكى وتتحاكى عن الظلم الذى يتعرض له أبطالنا فى اللعبات الفردية، سواء من خلال المجاملات، أو بيع الذمم مقابل هدايا، أو استبعاد الأكفاء لأجل عيون الأقارب والمعارف.. فهل سوف تتحركون؟.. نتمني!
عندى سؤال أخير إليك: فى رأيك كم فى وسائل إعلامنا نسبة المساحة المخصصة للحديث عن إنجازات هؤلاء الأبطال الأفذاذ الذين شرفونا فى إسبانيا إلى نسبة مساحات تغطية الفشل المدوى لأشاوسنا فى روسيا؟ سأترك الإجابة لك. إن آخر حصيلة قبل كتابة هذه السطور تشير إلى أن أبطالنا أحرزوا 45 ميدالية مختلفة، من بينها 18 ذهبية، احتلت بها مصر المركز الخامس.. فهل نجانب الصواب إن قلنا: ليت أن بعض الأموال المهدرة فى كرة القدم يتم توجيهها إلى هؤلاء المظلومين الذين بسببهم صدح نشيدنا الوطنى عشرات المرات، ورفرف العلم، فترقرقت الأعين بالدمع ؟.. هل آن أوان النظر لنصف كوبنا الملآن؟.
لمزيد من مقالات ◀ سمير الشحات رابط دائم: