من أعظم صور الفقد على النفوس وأشدها على الأمة والمدارس العلمية شيوخًا وطلابًا: موت المصلحين والعلماء الربانيين، وذلك لِما لهؤلاء من مكانة تتمثل فى كونهم ورثة الأنبياء، فكان بقاؤهم امتدادًا لهذا الميراث، وحفظًا للأمة من الانحراف واتِّباع غير طريق الهدى، وكان ابن عباس رضى الله عنهما يقول: «لا يزال عالِم يموت وأثَرٌ للحق يَدْرُسُ، حتى يكثُر أهل الجهل ويذهب أهل العلم، فيعملون بالجهل ويدينون بغير الحق ويضلون عن سواء السبيل».
وفى الأسبوع الماضى فقدت الأمة عامة والأزهر الشريف خاصة قامة ربانية وثقافية فريدة، وعَلَمًا أزهريّا عظيمًا، ذلكم فضيلة العلامة الأديب المعمر الشيخ/ معوض عِوض إبراهيم، الذى لم تعرفه الجماعة العلمية على مدار حياته التى تجاوزت المائة بستة أعوام (1912 - 2018 م) إلا راغبًا فى الجد والاجتهاد مع علو الأدب ورقى اللغة وسعة النظر وعمق الفكر وشمول الاطلاع، فضلا عن كونه جامعًا لمعالم الشخصية الأزهرية ودالًّا عليها. وهنا نؤكد على عامل أصيل من عوامل النهضة والإصلاح المرجوة لمجتمعاتنا المعاصرة، ويتجلى من أقرب طريق فى إحياء الشخصية الأزهرية إلى عهدها الزاهر وسيرتها الأولى.
ولقد كان شيخنا متصل الأسانيد فى سائر العلوم كشأن علماء عصره، لكنه كان محلا ووجهة رئيسية لطلاب العلم بمختلف طبقاتهم لعلو إسناده ودقة روايته، حيث إنه يروى كتب العلم والحديث عاليًا عبر السند الصحيح من سلسلة العلماء المصريين، وأولهم شيخه العلامة أبو الحسن على بن سرور الأزهرى الزنكلونى المتوفى عام 1359هـ.
كما كان شيخنا جديرًا بثقة الجماعة العلمية - مؤسسات وأفرادًا - حيث التف منذ شبابه حول أهل العلم والشيوخ الأكابر كالمراغى والخضر حسين ومحمود شلتوت وعبد الحليم محمود ومحمد أبو زهرة، مع تدرجه فى المناصب العلمية والإدارية حتى وصل إلى أعلاها رتبة وأقومها درجة.
إن شيخنا الجليل قضى قرابة قرن من الزمان ينشر الوعى الصحيح فى أجيال الأمة، مرشدًا لها إلى طرق البناء والإصلاح كشأن علماء الأزهر الذين هم دائمًا مع المصلحة العليا للأمة، وكان ذلك من خلال خطبه ودروسه، ومحاضراته الأكاديمية فى قاعات الدرس والندوات، وأشعاره ونثرياته الأدبية، فألف كتبًا خاصة وأبحاثا مستقلة تختص بدراسة ما تمس إليه الحاجة بأسلوب رصين ونهج فريد، فعلى مستوى البيان وتبصير الناس بأمور دينهم وأحكامه تأتى مجموعة من المؤلفات، ككتاب «قبس من الإسلام»، و«عناصر الإسلام وطرق هديه»، و«إنسانية العبادات فى الإسلام»، و «ملامح من هذا الدين» و «ذلك الدين القيم» و«مشاهد الوجود وشواهد التوحيد»، وغيرها.
وعلى المستوى الوطني، فقد شارك ضمن جهود الشئون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية فى مدة ما قبل حرب أكتوبر 1973م، كما دون شهادته بخصوص قضية فلسطين التى تعود بجذورها إلى وعد بلفور سنة 1917م، أى بعد ميلاد شيخنا بخمس سنوات تقريبًا، فى كتابه الماتع «فلسطين وكيف نستردها عربية أبية».
أما على المستوى الاجتماعي، فقد انطلق رحمه الله من الأسرة والمجتمع اللذين يمثلان أساس الوطن وعامل استقراره الأصيل، حيث اهتم رحمه الله ببيان الضوابط والأحكام والمقاصد التى تحيط بهما؛ فألف: «الإسلام والأسرة السعيدة»، و«ركائز المجتمع المسلم فى سورة الحجرات»، و«الأولاد ودائع الله عندنا».
ولا ريب أن هذه المؤلفات التى تركها شيخنا الراحل إذا انضمت بعضها إلى بعض سدت ثغرة كبيرة فى مسيرة نشر الوعى الصحيح فى الأمة بما يحقق استقرارها، وهذه حقائق متواترة تكشف عن سمات الشخصية الأزهرية العريقة، وتضفى على وجود علماء ربانيين مثل شيخنا الجليل بُعدًا رمزيًّا قويًّا ووزنًا عالميًّا كبيرًا؛ لأنهم يمثلون للأمة مصابيح هدايتها التى تنير الطريق الموصل إلى رضوان الله تعالى فى الدنيا والآخرة. رحم الله شيخنا وتقبله فى زمرة العلماء العاملين وعوضنا عنه خيرا.
لمزيد من مقالات د.شوقى علام مفتى الجمهورية رابط دائم: