لو رجع الزمان خمس سنوات لما ترددت فى الخروج إلى الشارع مرة أخرى مع من خرجوا يوم الثلاثين من يونيو. لم يخرج الناس يومها بسبب نقص الديمقراطية أو ارتفاع الأسعار أو نقص البنزين أو انقطاع التيار الكهربائي؛ وإنما خرجوا لأنه لم يكن هناك أسوأ من وقوع مصر تحت حكم جماعة لم تضع قالب طوب واحدا فى بنيان النهضة المصرية الحديثة؛ بل وربت أعضاءها على كراهية كل شيء أحببناه فى مصر، وعلى الشعور بالعار بسبب كل شيء أشعرنا بالفخر فى هذا البلد.
تمشى فى أنحاء مصر وتقرأ تاريخها، فتزور الإسكندرية التى استعادت مجدها كميناء ومدينة كبرى فى المتوسط على يد محمد على باشا بعد ثلاثة قرون من الإهمال العثماني. لم يبن محمد على باشا الإسكندرية فقط، ولكنه وضع الأساس لبناء مصر الحديثة، فأسس الجيش الوطني، وأدخل المصريين للجندية بعد استبعادهم منها لما يقرب من ألفى عام؛ وبنى المدارس التجهيزية لإعداد الطلاب لمدارس الطب والهندسة والترجمة والبيطرة العليا؛ وأرسل البعثات لبلاد أوروبا فعاد منها نبهاء المصريين الذين حملوا على أكتافهم عبء النهوض بمصر، فكان منهم على مبارك ورفاعة الطهطاوى ومئات آخرون.
جولتك فى أنحاء مصر وتاريخها لا بد أن تأخذك إلى جامعة القاهرة، أقدم جامعة حديثة فى الشرق، والتى قام ببنائها ائتلاف من المصريين الوطنيين بقيادة مصطفى كامل، والليبراليين بقيادة أحمد لطفى السيد. نتابع البهجة والاحتفالات الرائعة فى الشقيقة السعودية فرحا بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، فنتذكر قاسم أمين الذى كتب فى عام 1898 داعيا لتحرير المرأة، فلم تكن المرأة المصرية فى حاجة لفتوى أو لقرار سيادى لتتمكن من قيادة السيارة، أو لقيادة أى شيء آخر. هذه بعض من أيادى التيار الوطنى الليبرالى البيضاء، بفرقه المختلفة، على بلدنا. لليسار المصرى أيضا إسهامه المميز فى نهضة مصر، فرغم النفوذ السياسى المحدود لتيارات اليسار، فإن لليسار قوة ثقافية ضاربة، أسهمت فى تشكيل الثقافة والوعى المصرى طوال ثلاثة أرباع القرن الأخير. المزاج التقدمى المنفتح الذى خلقته القوى الوطنية الليبرالية واليسارية وفر البيئة الحاضنة لإبداعات الفكر والفنون والآداب والموسيقى والمسرح والسينما والرواية والقصة، التى جعلت من مصر المنارة الثقافية الأهم فى الشرق كله طوال القرن العشرين.
لم يسهم الإخوان، والجماعات التى دارت فى فلكهم، بشيء فى هذا الإرث الكبير، ومع هذا فإن نزاعنا معهم أكبر بكثير من مجرد نزاع على الميراث. لقد كره الإخوان كل ما حدث فى مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر، وكان من الغفلة استئمانهم على ميراث كرهوه، وتمنوا لو أمكنهم هدمه.
الهوية الوطنية تتكون عبر التاريخ، لكن التاريخ يحتمل روايات متعددة، تنتج كل رواية منها تعريفا مختلفا للهوية، وللإخوان وأشباههم روايتهم الخاصة وتعريفهم الفريد لهوية مصر. مصر فى عقيدة الإخوان ليست وحدة قائمة بذاتها لها طبيعتها وتاريخها الخاص، ولكنها مجرد مصر من الأمصار، وولاية من ولايات الخلافة؛ وتاريخها هو مجرد جزء صغير من تاريخ الفتوحات ودول الخلافة المتعاقبة. طظ فى مصر ليست زلة لسان من التفاهة الوقوف عندها، فالوطن فى عقيدة الإخوان هو حفنة تراب، ولهذا لم نقرأ لواحد من الإخوان قصيدة واحدة فى حب مصر الوطن. ليس لمصر فى الرواية الإخوانية تاريخ يميزها وتستقل به، حتى أنك لا تجد مؤلفا إخوانيا واحدا ذا شأن فى تاريخ مصر. كتب الإخوان عن معارك وصراعات خاضوها على أرض مصر، خاصة صراعاتهم مع الرئيسين ناصر والسادات. تاريخ مصر لدى الإخوان هو تاريخهم فيها، أما مصر ذاتها فليس لها تاريخ مستقل عن الإخوان وعقيدتهم.
لو حاولت لملمة الرواية الإخوانية للتاريخ المصرى من أفكارهم وكتبهم المختلفة، فستجد تاريخا يتكون من حقب ينفى بعضها البعض. الحقبة المسيحية أجهزت على الحقبة الفرعونية، والحقبة الإسلامية قضت على الحقبة المسيحية. فكل ما كان قبل الإسلام لم يكن سوى جاهلية ليس لها من شرعية للبقاء. ضرورات المواءمة فرضت على الإخوان التظاهر بقبول ما تبقى من مصر الفرعونية والمسيحية، فلا بأس من وجود الآثار التى يدفع خواجات مهووسون المال الكثير لزيارتها، أو من وجود أقلية مسيحية تدير شئونها الخاصة فى عزلة. الشيء الذى لا يسامح فيه الإخوان أبدا هو تلك الحقبة الحديثة التى بدأت قبل قرنين من الزمان مع صعود نجم محمد على باشا فى مصر. فبينما يعد محمد على فى نظر الغالبية من المصريين مؤسس مصر الحديثة، فإن الرواية الإخوانية للتاريخ المصرى لا ترى فى المائتى عام الأخيرة سوى تمرد على دولة الخلافة، وفتح للأبواب أمام أفكار حديثة قادمة من الغرب، لا يرى فيها الإخوان إلا تهديدا للعقيدة.
لم يكتب إخواني كتابا ينصف محمد على باشا، أو يحتفى بأى من الإنجازات التى حققتها مصر طوال القرينين الأخيرين، أو يقدر أيا من رموز العلم والفكر والسياسة والثقافة والفن والأدب الذين ذخر بهم القرنان الماضيان، بدءا من رفاعة الطهطاوى والإمام محمد عبده مرورا بمصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر والسادات، وصولا إلى نجيب محفوظ وأم كلثوم وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين، وغيرهم المئات من الرجال والنساء الذين أسهموا فى بناء هذا الوطن خلال القرنين الماضيين. فآثار هؤلاء قريبة باقية تحيا بيننا، وضد ورثة هذه القامات العليا خاض الإخوان حربا ضروسا.
لم يكن من العدل لمصر أن تدفع ثمن حكم مبارك مرتين, مرة وهو فى السلطة يديرها برتابة وبيروقراطية مفرطة مجردة من الخيال والإبداع والحلم, ومرة ثانية وهو يسقط بطريقة درامية تركت مصر فريسة لأسوأ مصير ممكن أن يحدث لها: حكم الإخوان المعادى لتاريخنا وهويتنا. ولهذا كان الثلاثون من يونيو ضرورة وحتمية.
لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد رابط دائم: