رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المسحراتى

منير عتيبة

فوجئ (على السمرا) مسحراتى قريتنا بالمصيبة التى حطت على رأسه منذ أول ليلة فى رمضان، ولم يعرف ماذا يفعل فى تعدى (فوزى الملك) عليه.

كان (على السمرا) هو المسحراتى الرسمى للقرية، الأجيال الجديدة لم تعرف غيره، والكبار يذكرون أنه يقوم بتسحير القرية منذ عقود خلفًا لأبيه فى المهنة، عمله الرسمى هو (جنايني) الوحدة الصحية التى لم يعد بها حديقة فعليًا بعد أن توسعت المبانى الخاصة بها على حساب الحديقة؛ ومعظمها مكاتب للموظفين، لكنه لم يتوقف عن الاعتناء بأحواض الزرع الأربعة التى بمدخل الوحدة الصحية، يزرعها وردًا بلديًا يسر الناظرين، ويضع منه على مكاتب مدير الوحدة وباقى الموظفين بحساب دقيق لعدد الوردات مقابل المستوى الوظيفى، حوضان من الأربعة يكفيان تلك المهمة التى تجعل كل من بالوحدة من أطباء وموظفين يرضون عنه وينادونه بلقب (عم علي) حتى لو كان بعضهم أكبر منه سنًا، فجسده الضئيل، وملامحه المكرمشة توحى بأنه عاش أكثر من عمره الحقيقى عقودًا كثيرة، أما الحوضان الآخران فتتولى زوجته (أم ناصر) تنظيف وردها من الأشواك، وتبيعها لبعض محلات الزهور فى المركز القريب من القرية، فيساعد ثمنها مع المرتب الضئيل لزوجها على توفير الاحتياجات الأساسية لهما ولأبنائهما الستة.

اعتاد فتية القرية أن يسهروا حتى السحور طوال ليالى رمضان؛ من بعد صلاة التراويح فى المسجد الكبير بالقرية، ينقسمون إلى مجموعات، البعض يلعبون كرة القدم فى الساحة الخالية أمام المسجد حيث يصر (جدو عبد الرازق) أن يكون حكما للمباريات، وبرغم سنه التى تجاوزت الثمانين، وبرغم أنه مات مرتين من قبل حيث غُسِّل.. وكُفِّن.. ثم يقوم بأكفانه ضاحكاً: والله لأوصلكم كلكم للقبر بيدى يا بلد عيال!، إلا أنه يجرى فى الملعب وكأنه فتى فى العشرين من عمره، والبعض يتسابق سباحة فى ترعة المحمودية التى تقع القرية على أحد شاطئيها لمعرفة من الأسرع وصولا إلى شاطئها الآخر، ومن يفضلون الجلوس يلعبون السيجة أو الدومينو فى ظل أضواء المسجد المتلألئة، لا يجمعهم سوى صوت الدقات على صفيحة (على السمرا) ثلاث دقات، ثم دقة واحدة، ثم دقتان، ثم ينادى اسم صاحب البيت الذى يقف أمامه مشفوعًا بكلمة رمضان كريم يمط فيها الياء طويلًا بصوته النحاسى المشروخ، يسير الشباب خلفه ويرددون ما يقوله ككورس عشوائى ضاحك، وكل من يصل إلى بيته يدخله، حتى يصل (على السمرا) إلى آخر القرية فلا يبقى معه سوى فرد واحد يدعوه للدخول ليتسحر معه، فيشكره (على السمرا) ويعود سريعًا ليتناول السحور مع زوجته وأبنائه.

كان المسجد الكبير بالقرية والساحة التى أمامه وحنفية المياه التى تقع على أطراف الساحة من جهة ترعة المحمودية، والتى تملأ منها كل نساء القرية ما تحتاجه بيوتهن من مياه الشرب، تقسم القرية إلى نصفين؛ شرقية وغربية، وكان (على السمرا) يبدأ جولة السحور من بيته الذى يقع على أطراف الناحية الشرقية، حتى ينتهى إلى آخر الناحية الغربية.

عندما وصل (على السمرا) إلى ساحة المسجد فى ليلة السحور الأولى، كان قد انتهى من إيقاظ أهل الناحية الشرقية، وسيبدأ جولته فى الناحية الغريية، لكنه فوجئ بصوت دقات طبلة يقترب، وصوت (فوزى الملك) المنهك من أثر تدخين سجائر الحشيش، يوقظ آخر بيت من بيوت الناحية الغربية، ويصل إلى الساحة أمام المسجد.

ثار (على السمرا) على هذا التعدى الصارخ على مهنته التى ورثها أبًا عن جد، وفكر فى أن يضرب (فوزى الملك) علقة ساخنة تعلمه الأدب، لكن الفكرة لم تستغرق سوى ثانية واحدة وماتت فى رأسه، فجسده الضئيل لن يستطيع أن يفعل شيئا مع الجسد العملاق الواقف أمامه، كما أن نظرة (فوزى الملك) المترددة بين طبلته الحديثة ذات الجلد المشدود، وبين صفيحة (على السمرا) الصدئة، كانت بمثابة الضربة القاضية التى ألجمت (على السمرا) فلم يستطع أن يفتح فمه، أما الشباب الذين وقفوا حولهما فلم يستطيعوا أن يعرفوا ماذا يجب عليهم أن يفعلوا فى هذا الموقف الغريب، وشعروا بالراحة عندما توقفت المبارزة النارية بالنظرات بين (على السمرا) و(فوزى الملك) بأن أعطى كل منهما ظهره للآخر واتجه إلى بيته، فعاد الجميع إلى بيوتهم وكل منهم يفكر فيما يمكن أن يحدث فى القرية نتيجة ما فعله (فوزى الملك).

كان (فوزى الملك) صعلوك القرية بحق، نال لقبه (الملك) عن جدارة بصفته ملك الكوتشينة الذى لا يمكن أن يهزمه أحد فيها، لذلك لم يكن يلعبها إلا برهانا ماديا، وكان البعض يلاعبه على (قهوة بيومى) بأمل أن يغلبه ويذيع صيته، والبعض يلاعبه ليخسر أمامه كنوع من الصدقة المخفية!

لم يترك (فوزى الملك) عملًا يجلب مالًا إلا ومارسه، يعمل فى ورشة الطوب، ويسلك مجارى الصرف الصحى، ويصلح (وابورات الجاز)، ويعلق الزينة على البيوت فى الأفراح ويرقص حتى الصباح، وينصب خيمة الفراشة فى المآتم، ويقدم القهوة السادة للمعزين، ويبيع أقراص الجلة فى سوق الأحد، ويبيع الحشيش، ويوفق بين الرءوس العاشقة فى الحلال أحيانًا، وفى غيره فى أغلب الأحيان.

استطاع (على السمرا) أن يجمع معظم كبار القرية بعد صلاة تراويح اليوم الأول من رمضان ليكونوا شهودًا وحكامًا على التعدى الصارخ الذى قام به (فوزى الملك) على أكل عيشه. كان الأمر واضحًا، فــ (على السمرا) هو مسحراتى القرية التى لم تعرف غيره، وما يحصل عليه من هدايا عينية ونقدية من بيوت القرية فى يوم العيد نتيجة هذا العمل هو حقه الذى يساعده على إطعام ثمانية أفواه بمن فيهم هو نفسه، وما فعله (فوزى الملك) يعتبر تعديًا واضحًا على حقوق (على السمرا)، وما على كبار القرية سوى أن يطلبوا من (فوزى الملك) أو يأمروه بأن يترك هذا العمل، ولا يزاحم الرجل فى أكل عيشه، لأنهم حتى لو فعل ذلك فلن يعطوه ما كانوا يعطونه لــ(على السمرا) من هدايا، الأمر بسيط وواضح ولا يحتاج لأكثر من ربع ساعة لإنهائه..

لكن فى قريتنا لا تحدث الأمور بهذه البساطة، تعالت أصوات البعض من أهل الناحية الغربية التى يسكن بها (فوزى الملك) تقول إن القرية أصبحت كبيرة على مسحراتى واحد، وأن (على السمرا) يضطر لأن يوقظ البعض مبكرًا زيادة عن اللزوم، والبعض متأخرًا زيادة عن اللزوم، لذلك لابد من أن يساعده أحدهم، بل قدموا الشكر لــ (فوزى الملك) لهذه المبادرة منه، وأشار آخرون من أهل الناحية الغربية إلى التجديد الجميل الذى قام به (فوزى الملك) فبدلًا من الصفيحة القديمة الصدئة أحضر طبلة يدق عليها بفن جميل اكتسبه من خبرته فى الدق خلف العوالم فى الأفراح..

تعالت الأصوات، وتداخلت، وتصارعت، وأصبح الأمر أكبر من (على السمرا) و(فوزى الملك)، فالبعض لا يقبل أن يبدى رأيًا ولا يؤخذ به، والبعض لا يقبل أن يتم تنفيذ رأى أهل الناحية التى لا يسكن فيها.. وعندما صرخ فيهم (جدو عبد الرازق) بأنه لم يبق على موعد السحور سوى نصف ساعة، اتخذوا قرارًا سريعا بأن يكون (على السمرا) مسحراتى الجهة الشرقية، و(فوزى الملك) مسحراتى الجهة الغربية، على أن يكون ذلك بداية من الليلة القادمة لأن القرية كلها مستيقظة بالفعل، وأسرع الجميع إلى بيوتهم.

لم يتضايق (على السمرا) من القرار كثيرا حيث وعد الجميع بمضاعفة ما كانوا يقدمونه من هدايا، وبالتالى فهو سيعمل أقل ويحصل على ما كان يحصل عليه من قبل.. لكن الساحة أمام المسجد والتى كانت مشتعلة بالنشاط فى ليالى رمضان بدأت تقل فيها الحركة تدريجيًا، وبدأ الشباب الذين يسكنون فى الجهة الغربية ينظمون مباريات كرة قدم تخصهم فى ورشة الطوب التى تقع على حدودهم، وشباب الجهة الشرقية ينظمون ألعابهم فى الجرن الكبير الفاصل بينهم وبين الحقول، وكل منهم يصاحب المسحراتى الخاص بمنطقته حتى يصلوا معه إلى الساحة، فينظموا مباراة كرة سريعة بينهم قبل السحور.

مع الوقت أصبح هناك تمايز واضح بين شباب القرية، حتى إنهم كونوا فريقين متنافسين لكرة القدم، فريق الجهة الشرقية وفريق الجهة الغربية، ستجد واحدًا أو اثنين من شباب الجهة الشرقية فى فريق الجهة الغربية حيث يرون أن رمز الطبلة دليل حداثة وتقدم يفضلون أن يسيروا فى ركابه، والعكس أيضًا لمن يرون أن رمز الصفيحة دليل أصالة يريدون المحافظة عليها.. امتد هذا إلى كل تفاصيل حياة القرية، بدلًا من سوق أسبوعية واحدة أصبحت هناك سوق لكل جهة، والرجال أصبحوا يفضلون تزويج بناتهم من شباب جهتهم، وارتداء البنطلون والقميص بين أهالى الجهة الغربية، كما فشا شرب السجائر المحشوة بالحشيش بين شبابها، بينما ظل أهل الجهة الشرقية يرتدون القفاطين، وشبابهم يفضلون البانجو.. الأهم أنه لم يتم إقامة صلاة العيد فى الساحة أمام المسجد الكبير.. بل أقيمت صلاتان واحدة فى الجرن والأخرى فى ورشة الطوب، كما بدأت كل جهة تبنى المسجد الخاص بها بعد العيد مباشرة.

لا يعرف شباب الجهة الشرقية ما الذى جمعهم عند الساقية القديمة حقا، هل هو صوت صراخ (أم ناصر) الملتاع، أم شىء خفى أخرجهم من بيوتهم وجعلهم يهرولون ليجدوا أمامهم (على السمرا) ممددًا بجوار الساقية، ثم جاء الكبار بعدهم، ووقف الجميع حائرين، هل اللون الأزرق الخفيف على رقبة (على السمرا) هو آثار ضغط أصابع خنقته، أم آثار حبل، والمزق الذى فى ثوبه وساقه اليمنى هل من آثار سكين حاد أم ذئب أم اصطدام بعمود الساقية إثر سقوطه عليه، واتخذ السؤال الكبير شكله النهائى فى عقولهم على خلفية صراخ زوجته المتصاعد: هل مات (على السمرا) أم قُتل؟. ومن ثم تبعه السؤال المنطقي: من قتل (على السمرا)؟.

كان العيد على الأبواب، وكان على (السمرا) يشكو من مضايقات (فوزى الملك) المستمرة له، ويعلن أنه يتمنى له الموت لتخلو له القرية كلها.. الجميع يعرفون ذلك، والجميع تحركوا آليًا يحملون جثمان (على السمرا) يقودهم الصوت الصارخ إلى الجهة الغربية ليقتصوا من (فوزى الملك) قاتل (على السمرا)، فلن يسمحوا أن يُقتل ابن جهتهم فيصبحوا الطرف الأضعف فى القرية، لكنهم ما إن اقتربوا من ساحة المسجد الكبير حتى رأوا أهل الجهة الغربية قادمين ناحيتهم يحملون جثمان (فوزى الملك) ويرغبون فى الانتقام من (على السمرا) قاتله.

وُضِع الجثمانان على الأرض أمام المسجد، لاحظ الجميع أنهما أصبحا يشبهان بعضهما بشكل كبير وغير معقول، ولاحظوا أنهما ماتا أو قتلا بالطريقة ذاتها، ولاحظوا نظرات الكراهية والرغبة المجنونة فى الانتقام تتطاير من عيون الجميع تجاه الجميع، وسحابة من أسئلة بلا إجابة تضربهم جميعا ببرق حاد.

رابط دائم: 
كلمات البحث:
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق