رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

نحو هجوم علمانى عربى

نقصد بالطبع هجوما فكريا، يتمرد على ما نلاحظه من تردد تيار الاستنارة العربية العربي، الذى أخذ يتخلى منذ عقود أربعة على الأقل، عن دعوته الصريحة إلى العلمانية، تحت ضغط الاتهام بالإلحاد أو ما يشبه من انتقادات، متراجعا إلى مفاهيم جزئية تعكس جانبا واحدا من جوانب المفهوم أو تخاطب جزءا من الفضاء الواسع الذى يشمله دون آخر، وذلك من قبيل «الدولة المدنية» أو «الدولة الحديثة» أو «دولة القانون» وغير ذلك من مصطلحات. كان هذا هو السياق الفكرى السابق على اندلاع عاصفة الربيع العربى التى أحالها الإسلام السياسى بفعل ادعاءاته اللاتاريخية، وكذلك بتمركزاته القارة فى وعى مجتمعاتنا إلى خريف ثقيل الوطأة، يكاد يفتك بحال السلم فيها وليس فقط بحال الحرية.

لقد رافق الفكر العلمانى العربى نقيضه، أى الإسلام السياسى طويلا، من دون قدرة على حسم الصراع معه فى أوقات مبكرة، تمتد فى الربع الثالث من القرن الفائت، وفى ظل سياقات مواتية بما لا يقاس مع ما نعيشه الآن، الأمر الذى يمثل فرصة ضائعة على الأمة، انفلتت من قبضة يدها دون حسم إحدى أخطر مشكلاتها العملية وإشكالاتها النظرية، تحت ضغط الاستبداد العسكرى المتغلغل فى ثناياها، والذى طالما نافق الاستبداد الدينى بهدف استعماله فى كبح النزعات التحررية التى سوف تترتب على المجاهرة بعلمانية ناجزة يفترض أن تذهب إلى غايتها الطبيعية وهى الديمقراطية وما تنطوى عليه من مطالب مجتمعية مشروعة بتبادل السلطة، ولكنها ليست مشروعة أبدا فى نظر تلك الجماعات المسيطرة.

اليوم، بالذات، صارت مجتمعاتنا أحوج ما تكون لإنجاز المهمة خلاصا من أمراض السلطة الجامدة، وأسئلة الشرعية المجمدة ناهيك عن الواقع المهترئ، ومن ثم يتوجب على الفكر أن ينتقل من خانة الدفاع إلى موقع الهجوم. صحيح أن الأرض لا تزال محترقة والاستبداد لا يزال مسيطرا، ولكن تبقى الفرصة متاحة لمثل هذا الهجوم مثلما أن الحاجة إليه ملحة، ذلك أن الفترات القلقة من عمر الزمن والتى تشهد تشككا فى اليقينيات السياسية والدينية، كالتى نعيشها اليوم، هى نفسها الفترات التى يُقبل فيها الناس على تمحيص مفاهيمهم المستقرة، مع إمكانية قبول أخرى جديدة، حيث الاختراق العلمانى يمثل فريضة الوقت، التى لا يجب تأجيلها إلى الغد.

غير أن نجاح مثل هذا الاختراق يتطلب التخلى عن حال التصلب التى تورط فيها كثيرون من رواد الفكر العلمانى العربي، وعن الطروحات الحدية للإشكالية التى انبروا للدفاع عنها، حيث الحاجة شديدة لأكثر الأطروحات نجاعة «نظريا» فى بناء الجسور، وتحقيق التصالح بين الدين والعلمانية، وأكثر النماذج نجاحا «تاريخيا» فى تجسيد هذا التصالح، أملا فى صوغ تيار رئيسى قادر على تجسيد دفق حركة مجتمعاتنا إلى المستقبل رغم ممانعات متصورة من تيارات مناوئة، ربما لا يمكن القضاء عليها نهائيا، ولكن يمكن إزاحتها إلى الخلف أو إحالتها إلى هامش يعارض ولا يعطل.

نقصر حديثنا اليوم على الجانب النظرى فى القضية، حيث يتعين التمييز بين مصطلح العِلمانى بكسر العين والعَلمانى بفتحها. فالأول هو «العلموي»، الذى يمكن أن نصف به كل من يتخذ من المعرفة العلمية الوضعية كما تتجسد فى العلوم الطبيعية، نموذجًا لباقى أنساق المعرفة، ما يعنى أنه يعمم المنهجية الوضعية على المجالات المختلفة، نافيا إمكان المعرفة الخلقية أو الدينية؛ لأن القضايا المتعلقة بأى منها ميتافيزيقية، لا يمكن إخضاعها لمعايير العلم التجريبي، ومن ثم فهى مزعومة أو زائفة. أما الثاني، فهو الشخص المنتمى إلى هذا العالم، المنشغل بالملكوت الدنيوى لا المنتظر للملكوت الأخروي، العلمانية ترادف إذن النزعة الدنيوية، والانشغال الايجابى بحركة التاريخ بعيدا عن حالة الدروشة الصوفية أو أشكال الاغتراب الوجودية، حيث يمنح العقل الإنساني، مستقلا عن الدين، دورا أساسيا فى مقاربة مختلف مجالات الحياة، واكتشاف الغايات التى يجدر تحقيقها فى هذا العالم والوسائل العملية المناسبة لذلك. وعلى هذا تصبح العَلمانية أقرب إلى موقف إبستيمولوجي/ معرفي، يحترم العقل، ويسعى إلى تنظيم المجال السياسى على أساسه. فالعلمانية السياسية هى العقلنة مطبقة على الفضاء السياسي، وبالأحرى على ظواهر من قبيل ممارسة السلطة وتداولها، وليست رؤية شاملة للحياة، تفرض على معتنقيها نزعة مادية أو موقفا إلحاديا. ومن ثم فإننا لا نربط بين مفهوم العَلمانية السياسية، وبين المذهب الوضعى المتطرف، نعم قد يرتبطان معا فى بعض التجارب الغربية كالفرنسية مثلا، ولكنه ارتباط أيديولوجى يقصد إليه صاحبه فى لحظة معينة وسياق بذاته، وليس ارتباطا حتميا يفرضه الانتماء للحداثة.

فى هذا السياق يمكن لمفهوم العلمانية (السياسية) أن يبقى على احترام المعتقدات الدينية والقيم الأخلاقية، فى المجال الخاص للفرد، بل يسمح للتشريع القانونى أن يكون متوافقا مع المبادئ الأساسية للدين ولو أعطى لنفسه الحق فى تفسيرها تفسيرا عصريا، على العكس من التيارات الوضعية المتطرفة التى تصر على علمنة الأخلاق ونفى المطلقات الدينية، بحيث نصبح أمام علمنة وجودية تنزع المرجعية الأخلاقية عن الدين ذاته، وليس فقط من المتحدثين باسمه، لتصبح القيم الأخلاقية نسبية وتاريخية، فلا مبادئ الدين الأسمى تبقى ملهمة، ولا قيمه العليا تظل شاملة وكونية، بل تصير الفضيلة هى ما يتوافق عليه البشر، حتى لو كانت فى الأصل ورذيلة، فالاتفاق البشرى هو أصل الخير والشر، الإباحة والتحريم. وبينما تجعل العلمانية المعتدلة من الإنسان قطبا ثانيا للوجود يقف أمام الله، يحاوره ويتلمسه من دون أن يقصيه عن موقعه، ولذا تبدو ممكنة فى ظل الإيمان الروحي، قدر ما هى مطلوبة لتكريس الحكم الرشيد وبناء المجتمع الحر، فإن العلمانية الوجودية تضع الإنسان فى مركز العالم بديلا عن الإله، الذى يتم إقصاؤه إلى موقع الهامش أو يدفع به إلى حافة الموت، ومن ثم تبدو غير ممكنة فى ظل الإيمان، مثلما هى غير حتمية لرشادة الحكم، بل إنها ربما فتحت الباب إلى أمراض اجتماعية ترافق مثالب الاستبداد، فحيث يتوارى الوازع الدينى يضمر الضمير الأخلاقى عند عموم البشر، وتتمدد نزعات العبث ومشاعر العدم فى كل اتجاه، حتى لو كانت المجتمعات متقدمة، بل أحيانا بسبب تقدمها، حيث تنبع بعض روافد أزمة المعنى فى عالمنا المعاصر.

[email protected]
لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم

رابط دائم: