رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مأزق نوبل

شكلت جائزة نوبل سياقا من الجدية جعلها أرفع جائزة أدبية فى العالم، غير أن السنوات الأخيرة شهدت لغطا هائلا بشأنها، ازداد صخبا مع حصول المغنى الأمريكى والشاعر الغنائى أيضا بوب ديلن عليها فى العام قبل الماضي، غير أن هذا لم يكن وحده كافيا كى يحمل كل هذا القدر من الارتباك الذى صاحبها هذه الأيام، حيث تتعرض الجائزة العريقة لهزة حقيقية تتصل بصدقيتها التى باتت على المحك الآن، خاصة مع تنامى أخبار متواترة واتهامات يتم التحقيق فيها الآن بشأن تحرش المصور الفرنسى جان كلود أرنو المصور الفرنسي، والمعروف فى الأوساط الثقافية فى بلاده، وزوج إحدى عضوات الأكاديمية السويدية مانحة الجائزة، اللذين يملكان مكانا ثقافيا يتلقى دعما من الأكاديمية، حيث تتهمه عدد من السيدات بالتحرش بهن، وبينهن عضوات أخريات فى الأكاديمية السويدية نفسها.

وتفاقم الأمر بوجود تسريبات لأسماء من فازوا بالجائزة فى السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من الوقائع المتعينة التى فرضت حالا من الصخب فى الفترة الماضية جعلت الجائزة تلغى لهذا العام، ويقرر منحها لاثنين من الفائزين فى العام المقبل 2019، إلا أن الجائزة نفسها بدت بحاجة إلى مراجعة نقدية دقيقة من الدوائر الثقافية والأدبية فى العالم جميعه، وتختص المراجعة على نحو محدد بإيلاء الاعتبار للقيمة الجمالية والفنية وليس محددات السوق الاستهلاكى التى شاعت أخيرا، وتغليب ثقافة «البوب آرت»، وتعليب الأدب، وتسليعه لصالح الرأسمالية المتوحشة تارة، والنيوليبرالية الجديدة تارة ثانية.

إن هالات التقديس التى أحاطت بأعضاء الأكاديمية السويدية وجعلت منهم أعضاء سرمديين لا يتبدلون إلا بالموت، أسهمت فى تنميط الذائقة الجمالية التى تختار وفقا لمعاييرها الثابتة والمتصلة بآليات السوق فى الفترة الأخيرة؛ ولذا غابت الأسماء الفاعلة عن مشهد الكتابة فى السنوات الفائتة وبدا التكريس للمركز الأورو أمريكى فى إنتاج الثقافة والإبداع أكثر سفورا، ولا شك أن الهيمنة السياسية أفضت إلى هيمنة ثقافية على مقدرات الجائزة الرفيعة، ولذا سنجد أن أكثر من تسعين كاتبا من أمريكا وأوروبا قد حازوا الجائزة منذ منحها للمرة الأولى فى العام 1901، فضلا عن حجبها سبع مرات من قبل، وبما يعزز من سطوة المركز الأوروبى من جهة، ويعد علامة على إقصاء المراكز الإبداعية الأخرى من جهة ثانية.

وتنشغل الأوساط الثقافية العربية كل عام بنيل الجائزة، كل حسب هواه، دون أن تفكر فى الإسهام الفاعل فى منجز الثقافة العالمية، هذا المنجز الذى غابت عنه بفعل تردى المؤسسات الثقافية لدينا، وعدم القدرة على الحضور فى متن الإبداع العالمي، وغياب حركات الترجمة المؤسسية المنظمة، فضلا عن انحدار السياق العربى العام. غير أن هذه المساءلة للذات لن تكتمل فى الحقيقة سوى بالخروج من نفق الاستلاب للماضى من جهة، والاستلاب للمركز الأورو أمريكى من جهة ثانية؛ فالمعرفة فى عالم ما بعد الحداثة لم تصبح حكرا على أحد، بل صارت ابنة للتنوع الخلاق، والصيغ الإبداعية سردا وشعرا لم تصبح نصوصا مغلقة، تعرف هذا النقاء المطلق للنوع الأدبي، وإنما صارت الفنون متداخلة للغاية تتجادل فيما بينها وتستعير من بعضها البعض آليات وتقنيات مختلفة، بل وتنفتح على الوسائط البصرية والتكنولوجية الجديدة.

حينما ذهبت الجائزة لأسماء مهمة تنتمى للمركز الأورو أمريكى مثل وليم فوكنر وجون شتاينبك وسان جون بيرس وبيرانديللو وهرمان هيسه وألبير كامو وهيمنجواى وساراماجو وغيرهم كثيرون شكلت حولها إطارا يحميها وعندما ذهبت مثلا للروائى الكولومبى جارسيا ماركيز، والكاتب النيجيرى وول سونيكا، والمبدع المصرى نجيب محفوظ، كانت تضرب فى مناطق جديدة من المغامرة الجمالية والموضوعاتية للكتاب الثلاثة الأفذاذ، ومن ثم سيكون إعادة الاعتبار للمعنى والقيمة الجمالية شاغلا رئيسيا للجائزة التى سيمثل خسارتها خسارة حقيقية لعالم الكتابة فى العالم.

يجب على الثقافة العربية بتنويعاتها المختلفة أن تتخلى عن كسلها المعتاد وإحساسها العارم بالاستلاب تجاه الثقافات الأخري، ولكن ليس من قبيل المنطق الشوفينى الذى نرى من خلاله أنفسنا الأفضل دائما ولكن من خلال الجدل الخلاق مع الآخر والتخلى عن مشاعر الخوف وهواجس الريبة المستمرة.

إن الثقافة العربية التى تآكل كثيرا من نخبتها لم تزل تمثل رهانا حقيقيا على المستقبل، فالأداء النظرى الباهت عندنا يقابله وعى نقدى تطبيقى مجدد وخلاق لدى البعض من مفكرينا ونقادنا، فالنظرية النقدية ليس ثمة وطن لها، والمعرفة الإنسانية حرة وعابرة للهويات.

وبعد.. تستمد الجوائز قيمتها الحقيقية من قدرتها على فتح مسارات جديدة فى الكتابة، وتدشين صيغ إبداعية فريدة ومغايرة، اعتمادا على إرث راسخ للجان تحكيمها من النزاهة والدأب والموضوعية والمعرفة العميقة ببنى النص الإبداعى وتقنياته وتحولات الكتابة فى العالم، ومشهدها الثرى والخلاق، هنا وعبر هذا الفهم على نوبل أن تراجع نفسها شأن أى جائزة فيما يتعلق بالفن الحقيقى الذى يفتح الأبواب المغلقة، وليس الذى يدخل الأبواب المفتوحة.


لمزيد من مقالات ◀ د. يسرى عبدالله

رابط دائم: