رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مع المربع الذهبى
«الحلقة الأولى»

أحمد إبراهيم الفقيه

بين احضان توفيق الحكيم

هذا استحضار لذكرى اربعة ادباء راحلين، من نوابغ الابداع القصصى فى الادب العربى توفيق الحكيم ونجيب محفوظ واحسان عبد القدوس ويوسف ادريس، وتصوير لمناخات واجواء كل واحد منهم فى هذه القصص الاربع التى تنتمى لادب القصة القصيرة وهو لون برع فيها الادباء الاربعة، وكانوا من كبار رواده وصانعى تراثه، عطر الله ثراهم واكرم مثواهم ونفع البشرية جمعاء بجميل عطائهم وابداعهم الذى سيتواصل على مدى الدهر.


قادنى ارتفاع طارئ فى نسبة السكر فى الدم، الى التردد اليومى، على نادى الصيد والرماية، لأقضى مدة ساعة، ماشيا مشيا سريعا، خفيفا، فى المسار المخصص لرياضة المشى، واقضى وقتا قبل هذا المشوار، جالسا اقرأ صحيفة او اراجع نصا من نصوصى الادبية قيد الطباعة، وفى حين يفضل اغلب اعضاء النادى الجلوس فى الاماكن المفتوحة، اخترت انا صالة مغطاة، تنعم بالهدوء والسكينة، تتبع احد مقاهى النادى، مكانا لجلوسى، لا يشاركنى غير زبون طارئ، يأتى عرضا، ويذهب، دون ان يرتبط بدوام يومى كما افعل، وبين هؤلاء الزبائن الطارئين، جاءت امرأة، متوسطة العمر، على شىء من البدانة، تحمل مجموعة الصحف والمجلات الصادرة ذلك اليوم، تستغرق فى مطالعتها قبل ان تذهب الى قاعة الجيم القريبة لتخسيس وزنها الزائد، كما عرفت عندما سمعتها تسأل النادل عن اوقات عمل تلك القاعة، ولاحظت انها شديدة الحساسية لأى صوت يقتحم هدوء جلستها، وقد ابدت احتجاجا على الجرسون لمجرد انه احدث صوتا وهو يقفل خلفه الباب عندما حمل لها فنجان القهوة الذى طلبته، ورأيتها فيما بعد تنهض من مكانها وتتقدم منى ، اثناء حديث مع عامل المقهى حول ما اريده من زيادة فى الحليب مع القهوة، والا يستخدم السكر العادى وانما حبة من علبة السكرين، تطلب منى ان اخفض صوتى لأنها تجده مرتفعا، يمنعها من التركيز، فأجبتها الى طلبها بان انهيت الحديث مع الرجل، دون ان اجد حاجة لان ادخل فى نقاش مع زبونة تأتى ليوم واحد، تم تختفى ، رغم اننى كنت على قناعة باننى لم اكن اتكلم بصوت يمثل ازعاجا، ويستدعى هذا الاحتجاج واللوم، واتضح فى الايام التالية، ان السيدة لم تكن زبونة عارضة، وانما زبونة دائمة، تكرر مجيئها كل صباح، وتكرر تدخلها عند كل مناسبة اخاطب بها عاملا من العمال، وصبرت على تدخلاتها، مستجيبا لما تريد، الا اننى تعمدت الكيد لها، بان انتظرت حتى جاء دورها فى الحديث مع زميلة من زميلات الجيم مرت بها، فقمت من مكانى متجها اليها، ابلغها باحتجاجى على صوتها المرتفع، مع انه لم يكن مرتفعا، فتعمل على خفضه، فأعاود الاحتجاج وتعاود انقاص درجة الصوت، حتى صار همسا، وعندما وجدتنى اسألها ان تخفضه اكثر، عرفت ان فى الامر تربصا وكيدا، واننى افعله متعمدا لأغاظتها، ردا على عديد احتجاجاتها، فانفجرت ضاحكة، وكانت هذه الضحكة بداية صداقة والفة نمت بيننا، ومدخلا لتبادل الاحاديث والآراء، وابدت حماسا وفرحا شديدين عندما عرفت اننى كاتب، صاحب مؤلفات قصصية ومسرحية، واثار هذا الفرح وهذا الحماس فضولى، لأسألها ان كانت هى ايضا ذات ميول ادبية، فأجابت بانها ميول ادبية مقموعة، لأنها احبت الادب، وباشرت وهى لا تزال طالبة، فى كتابة خواطر شعرية، لكن هذه الخواطر التى نشرتها فى صحف حائطية مدرسية، اثارت غضب الاسرة، وتسببت فى ضيق وكدر لأبيها وامها، فعدلت عن هذه الهواية، ولم تعد الى ممارسة اى تعبير ادبى، عدا المتابعة المستمرة لما يكتبه الادباء، واضافت بانها عرفت توفيق الحكيم وربطتها به ذكريات جميلة، وانها كانت محظوظة لانه كتب عنها دون اشارة الى اسمها، وذكرت عنوان كتاب يحتوى بعض مقالاته، وكان احد هذه المقالات عن لقائه مع امرأة مجهولة، قالت انها كانت هى هذه المرأة المجهولة فى حياة الكاتب الشهير، وحرك حديثها فضولى فذهبت الى مكتبة القاهرة الكبرى، ابحث عن هذا الكتاب القديم الصادر فى اربعينيات القرن الماضى، واجد مقالا قصيرا جدا، كتبه الحكيم باسلوبه الرشيق الذى تنساب فيه تعبيراته كجدول رقراق، عن قارئة لا يعرفها، تقدمت لتحيته، ولكنها بدل ان تصافحه وتمضى، او تخرج من حقيبتها كراسا يكتب فيه توقيعه، وجدها تفتح احضانها وتضمه الى صدرها وتقبله وتمضى، وهى اول مرة وآخر مرة تحصل له هذه المعانقة الانثوية تبادر بها قارئة مصرية، لا يعرفها، مع شيوع مثل هذه المعانقات بين الرجال والنساء فى فرنسا، الا انها غريبة على المجتمع المصرى والعربى، خاصة اذا جاء من امرأة يلتقى بها لاول مرة.

وشرحت لى جيجى، وهذا هو اسمها، كيف ان الحكيم حكى جزءا من الواقعة واخفى اجزاء اخرى، وتفاصيل تحرج من سردها، واكتفى بجانب لا يثير حفيظة القارئ فى ذلك الزمان، وما حدث انها كانت تعرف ان للحكيم جلسة يلتقى فيها باصحابه عند قضائه اشهر الصيف فى الاسكندرية، فى مقهى على الكورنيش، بمنطقة سيدى بشر اسمه مقهى بيترو، ولانها كانت تقضى الصيف مع اسرتها فى الاسكندرية ، فقد قصدت اكثر من مرة ذلك المقهى ، لتحيته، وتقديم الشكر له، على اللحظات الممتعة التى قضتها مع كتبه ، باعتباره اكثر الكتاب استقطابا لاعجابها، وقربا من وجدانها وذائقتها الادبية، الا انها ما ان تصل المقهى، وترى العدد الكبير من الاصدقاء، يحيطون به، حتى تخجل من مخاطبته ، او حتى الاقتراب من الطاولة التى يجلس اليها، وترجع دون تحقيق رغبتها فى تحيته والتعبير عن اعجابها به، ولكنها داومت على التردد على هذا المقهى مكتفية بان تراه من بعيد، متأملة ان تجده مرة بمفرده وقد وصل الى المقهى قبل ان يكتمل هذا الحشد من اصحابه، وحدث فى احدى هذه المرات، ان لاح لها طيفه، يعبر منحنى من زقاق، خاليا تماما من الناس، فى الطريق الى المقهى، فأسرعت من اجل اعتراض طريقه وهو يسير فى هذا الزقاق، وهى تشعر بالفرح والارتباك، ووجدت لسانها يتلعثم، وهى تقف امامه، تعترض طريقه، وتأبى الكلمات ان تخرج من فمها، فلم تجد وسيلة للتعبير عن عواطفها غير ان تفتح ذراعيها وتضمه الى حضنها، وتنهمر بقبلاتها على وجهه، ثم تتركه هاربة، راكضة، وسمعته يناديها لكى يستبقيها قليلا للحديث، فالتفتت قائلة على عجل، بانها ستأتيه فى نفس الموعد، وفى نفس المكان، فى اليوم التالى.

وتكرر فى اليوم التالى، وفى نفس المكان ، ونفس الموعد، ما حصل فى اللقاء الاول، الا انه فى هذه المرة الثانية، لم تكن هى التى وعدت بالعودة فى نهاية المعانقة، وانما هو الذى قال لها بانه سينتظرها غدا كما فعل اليوم، وكان ذلك ما تريده وترجوه، وحرصت على تنفيذه، اذ ظلت تأتى اليه كل يوم ، عند الساعة الحادية عشرة، فتأخذه بالاحضان، وتغمر وجهه بقبلاتها، وتمضى، وكان هو دائما فى الموعد، جاهزا لاستقبالها، فاتحا ذراعيه لاحتضانها، وللتفاعل مع قبلاتها، وكانت هى صبية دون العشرين بقليل، وكان هو على مشارف الخمسين، وواظبت على هذا الروتين، الى ان سمعته فى آخر يوم من ايام اللقاء، يقول انه عائد فى صباح اليوم التالى الى القاهرة، فقد انتهت اجازة الصيف .

وانتهت فى ذلك اليوم هذه العلاقة العارضة الطارئة، الطائشة، اللذيذة ، الجميلة، واحست انها اشبعت حاجتها للتواصل مع الكاتب الذى عشقت كتاباته، فلم تعد الى رصده اثناء اجازة الصيف فى الاسكندرية، وقرأت فيما بعد ما كتبه عن هذه العلاقة العابرة، وارادها ان تكون مبتسرة، مبتورة، فلم تتصل به لكى تعاتبه على هذا الابتسار، لانها رأت فيما كتب تعبيرا رمزيا، يكتفى بالدلالة ، وليس تعبيرا واقعيا، يعتنى بالنقل الحرفى لما حصل فى الحقيقة، كما لم تجد فى نفسها رغبة لتلبية الطلب الذى قاله فى أخر المقال، متأملا ان تفصح له السيدة المجهولة عن اسمها، ورأت ان بقاءها غامضة ، بلا اسم، اكثر رومانسية واثارة. كان هذا اللقاء قد حصل فى عقد السبعينيات، وكان توفيق الحكيم موجودا، يستقبل زائريه فى مكتبه بمبنى صحيفة الاهرام، واقترحت عليها ان تفاجئه فى هذه المرحلة المتقدمة من العمر، وتزوره فى مكتبه، وسيكون سعيدا بأن يجد هذا الطيف من الماضى يظهر له بعد ثلاثة عقود من الزمان، وابديت استعدادى لان ارافقها فى هذه الزيارة، ورغبتى لان اكتب مقالا عن هذا اللقاء، يكون توثيقا وتخليدا له.

لم اجد منها حماسا للفكرة، كما لم اسمع رفضا لها، فسألتها ان تقضى يوما للتفكير فيما اقترحته عليها، وان تبلغنى برأيها عندما نلتقى فى الغد، وفى اليوم التالى جاءت تقول، ان توفيق الحكيم رآها فى ذلك الصيف فراشة تخفق بذراعيها، وتتباهى بجمالها، كمثل وردة نضرة فواحة، فليس عدلا فى حقه ولا فى حقها، افساد هذه الذكرى، وهى ترى ، بعد ان اخذت وقتا تفكر فيما قلته لها، ان زيارته، بعد هذه السنين وهى فى هذا العمر، افسادا للذكرى وليس استحضارا جميلا لها.

اردت مجاملتها قائلا، بانها لا تزال بحمد الله تتمتع بذات الملامح الجميلة والعينين الكحيلتين، فرفضت قبول كلامى، قائلة هبنى اردت تكرار التجربة اليوم، وترصدته اثناء خروجه من الاهرام، وتقدمت لاحتضانه وتقبيل وجهه عدة مرات، هل تراه سيفرح ذات الفرح، الذى استقبل به قبلاتى فى ذلك الصيف، وهل تراه سيقف فى ناصية الشارع ينتظرنى فى اليوم الثانى لافعل معه ما فعلته اول يوم، وبنفس اللهفة والحماس ، كما فعل منذ ثلاثين عاما.

لم اقل شيئا، ردا على كلامها، فاستأنفت حديثها تعلق على صمتى قائلة بان هذا هو الصمت الذى يقول كلاما اكثر صدقا من كلمات المجاملة عن شبابها وفتنتها.

اضاعت السيدة جيجى على كاتب مثلى، فرصة ان يشهد اللقاء بينها وبين الحكيم، الذى لابد انه سيكون مثيرا، وسيحظى ما اكتبه عنه بما يستحقه من اهتمام باعتباره قطعة من تاريخ الادب العربى المعاصر، يكتبها كاتب كان شاهد عيان على الحدث، خاصة اننى ساكمل قصة المرأة المجهولة التى اوردها الحكيم ناقصة فى مقاله القديم، ورايت بعد ما حدث، الا اخرج من هذه الحدوتة الصغيرة بلا فائدة ادبية امنحها للقارئ، وان احظى بكسب صغير اعوض به خسارة ما فاتنى اضافته للتاريخ الادبى، وهو كتابة هذه القصة الصغيرة، التى تتخذ وضعا راقصا على التخوم الواقعة بين التاريخ الادبى النص الابداعى.

 


آخر فتوات نجيب محفوظ

لا احد من حى الدراسة المحاذى لحى الحسين، كان يعرف من أين جاء الرجل ، ولا كيف جاء الى الحى، ولا متى جاء هو ومتى استوطن اهله حى الدراسة، واصبحوا جزءا منه، كل ما صار اهل الحى يعرفونه، وكان بعضهم شهودا عليه، هو انه ذات ليلة من ليالى عيد الفطر، والاحتفالات بالعيد قائمة فى الحى، وانوار الفوانيس تضىء كل ركن من اركانه، وغناء الاطفال وهم يطوفون فى تجمعاتهم الصغيرة والكبيرة، يرتفع باهزوجة، وحوى ياحوى وكمان وحوى، عندما تفجرت فجأة معركة حامية الوطيس، فى اكبر مقاهى الدراسة، ذات الشرفة الواسعة التى ترتفع اشبارا على مستوى الرصيف، والتى يتخذها فتوة الدراسة، فاروق ابو زلعة، مكانا مفضلا لجلوسه وتيسير اعمال الفتونة، والالتقاء بصبيانه، واقامة المحاكم للمتخاصمين اللاجئين الى عدله، فيصدر حكمه بينهم، ليكون نافذا ناجزا اكثر من حكم المحاكم، جولة من جولات الصراع ، شديدة العنف والشراسة نشبت بين الفتوة وصبيانه، وبين الرجل الذى جاء برجاله يتحداه ويطلب منازلته، تعالى فيها الصراخ وضجة النبابيت وهى تصطدم ببعضها البعض، ويعلو ضجيج المعركة على كل مظاهر الاحتفالات، واهازيج الفرح بالعيد، المتصاعدة من الاطفال، واسفرت المعركة عند انتهائها عن فتوة الحى، ابو زلعة، مرميا فوق الارض، فاقد الوعى، ليحمله صبيانه فوق اكتافهم بعيدا عن مكان المعركة، وارتفعت صيحات المنتصرين يهتفون وهم يرقصون باسم الفتوة الجديد لحى الدراسة، زعيمهم ابو شادوف، ونشط جرسونات القهوة فى توزيع المشاريب على الضيوف وافواج المهنئين، التى توافدت على المكان، وبينهم فتوات الاحياء المجاورة، جاءوا يعبرون عن مناصرتهم وتأييدهم للفتوة الجديد، الذى لم يكن احد من اهل الحى يعرف له اصلا ولا فصلا، ولا انتماء لحى الدراسة.

.استوى ابوشادوف على الأريكة، التى تتوسط الشرفة الواسعة فى المقهى، ببنيانه العريض، وعضلاته المفتولة، وملامح وجهه القاسية، وامتلاء جسمه، فبدا كأنه تلة من الصخور البركانية، بسبب لون بشرته الذى يميل الى السواد.

لاقى مجىء الفتوة الجديد، الذى لا احد يعرفه من اهل الدراسة، ترحيب قاطنيها بمختلف مراتبهم وفئاتهم، لانهم كانوا قد عانوا من ابى زلعة معاناة قاسية فى آخر ايامه، ليس منه شخصيا، ولكن من اعضاء عصابته، بعد ان صار بسبب تقدمه فى السن غير قادر على احكام قبضته عليهم، فاصبحوا يعملون لحسابهم، ويأخذون اتاوات اضافية لانفسهم، فوق الاتاوات التى يفرضها الفتوة على التجار واصحاب الوكالات، والباعة المتجولين، وكان اهل الدراسة جميعا يتطلعون الى مجيء فتوة جديد، توقعوا انه لن يطول حتى يجيء ويحتل مكان الفتوة الذى تقدمت به السن، فيسيطر على هؤلاء الصبيان ويمنع اعمال البلطجة التى يقومون بها على قاطنى الحى، ورغم انهم لم يكونوا يعرفون ابوشادوف من اين جاء وكيف جاء، ولا متى جاء الا يوم ان استوى زعيما على الحى، ولحقت به اسرته تسكن بيتا من بيوت الدراسة، كان خرابة مهجورا، اعاد الفتوة صيانته وبناء طابق فوقه، واستولى على ارض فضاء خلفه جعلها حديقة، فاصبح له شكل سرايا من سرايات اثرياء الحى، نقل له نساءه الثلاثة، اللاتى لا يراهن احد، ولا يخرجن للقاء احد، ما عدا الخادمة السمراء التى تتولى جلب حاجاتهن من السوق، بل حتى هذه الخادمة لا تغادر البيت وتعود اليه الا عندما يكون رب البيت موجودا بداخله، لانه كان يضع قفلا كبيرا على الباب الحديدى للبيت، فلا احد يستطيع الدخول والخروج الا عند مجيئه، بسبب غيرته الشديدة على زوجاته. وكان قد جاء بصبيانه معه عندما تولى الفتونة، وابقى عددا قليلا من صبيان الفتوة السابق، وتحول البقية الى باعة سريحة وغفر مع بعض الوكالات، وكان ابو شادوف قادرا على لجم صبيانه، فلا يخرجون على اوامره، ولا يجمعون إلا الاتاوات التى يأمر بها سيدهم، وظلت هى نفس الاتاوات التى كانوا يدفعونها للفتوة القديم، غير انهم سرعان ما وجدوا ان قيمة الاتاوات تتضاعف، وبشكل كان فوق قدرة الكثيرين على دفعها، فقرروا رفع التماس الى الفتوة باعادة النظر فى هذه القيمة وتخفيضها الى الحد المعقول الذى يستطيعون دفعه دون ارهاق، وتكون وفد ذهب اليه فى مجلسه عند شرفة المقهى، فرفض التماسهم بذريعة ارتفاع المعيشة، ومرتبات صبيانه، ولزوم المحافظة على سلامة الحى، وحمايته من اللصوص وعصابات السطو والنهب، وقال ان الاتاوة لن تقتصر على اصحاب الوكلات والحوانيت والباعة المتجولين، وانما هناك اتاوة سيفرضها على كل بيت، فهو وصبيانه لا يحمون اهل التجارة فقط ولكن يحمون كل مسكن وكل ساكن، وارسل هؤلاء الصبيان يجمعون الاتاوة الجديدة من اهل كل بيت، ولم يكن كل ساكن قادرا على دفعها، لان هناك ارامل وعاطلين عن العمل، وذهب اليه شيخ المنطقة طالبا استثناء المعوزين والفقراء، فرفض طلبه، وصار الناس يرون للفتوة ابوشادوف وجها اكثر قسوة وشراسة وظلما من سابقه، ووصلت اخبار عن كونه يرتاد احد اندية القمار، وان آفة القمار هى سبب التحامل على الناس وزيادة الاندفاع فى سلبهم ارزاقهم لتغطية خسائره على موائد القمار، وصار عند امتناع بيت من البيوت عن الدفع، يرسل صبيانه لاخذ الاتاوة بالقوة، وحدث ان تعرضت ارملة لمثل هذه الحملة التأديبية التى يقوم بها صبيان الفتوة، ولم يجد الصبى الذى قاد الحملة شيئا يأخذه غير القرطين الموجودين فى اذنيها، فاستلهما بالقوة منها، حتى سالت الدماء من كل اذن، وصارخة خرجت الى الشارع، والى بيت جار كان بحارا فى السويس عاد الى بيت العائلة مع زوجته وابن فى سن المراهقة، وكان محرجا وهو يرى جارته الارملة فى هذه الحالة، لانه تعود فى السويس ان يذهب الناس الى مركز الشرطة لانصافهم من مثل هذا الاعتداء، والى القضاء والنيابة، وقطع عليه حيرته ابنه الصبى، ذو السبعة عشر عاما، يقترح ان يذهبا معا الى الفتوة، يطالبانه باعادة القرط ومعاقبة المجرم الذى اعتدى على المرأة، وهدد بانه سيذهب بمفرده اذ لم يشأ والده الذهاب، والوالد البحار يدرك ان شجاعة ابنه عصام فى طلب هذه المقابلة للفتوة نابعة من كونه تلقى تدريبا فى رياضة التايكوندو، ونال فيها نصرا على احد خصومه، جعله يحوزعلى جائزة من جوائز النادى الرياضى فى السويس، الا انه صبى ضئيل الحجم، لن يستطيع ان يهز شعرة فى جسم هذا الفتوة الذى له حجم فيل وقوة ثور، وسيطوح بابنه فى الهواء، وقد يسقط محطم الرأس على احد الحوائط، وخوفا على تهور ابنه فى افتعال معركة مع الفتوة، وافق على الذهاب لتقديم الرجاء الى ابى شادوف، بانصاف الجارة الارملة.

وصلا الى المقهى، واقتربا من موقع الاريكة التى يجلس فوقها ابو شادوف يدخن الشيشة، يهيمن على فضاء المكان بجسمه العريض وقامته السامقة، وينظر بعنجهية وكبرياء لكل من حوله وكأنه مكلف بادارة الكرة الارضية بكل من فيها، ووقف البحار بين يديه، وبجواره ابنه ومن حولهما ثلاثة رجال من الجيران، يقدم له نفسه، شاكيا مما حدث لجارته الارملة من اعتداء وسطو على قرطيها بطريقة اسالت الدم من اذنيها من طرف احد صبيان الفتوة، فقال ابو شادوف ان الرجل الذى يسميه صبيا، ليس صبيا وانما هو صهره وساعده الايمن المعلم عطوة، وهو لم يفعل الا ما يمليه عليه الواجب، ازاء من يرفض الامتثال للاوامر والتعليمات، وانه افضل له الا يحشر نفسه فيما لا يعنيه، وان ياخذ المجموعة التى جاء بها معه ويعودوا الى بيوتهم قبل ان يغضب من تصرفاتهم وينزل بهم عقابه. وهنا تكلم الابن عصام، بصوت مرتفع ، ولهجة غاضبة، قائلا للفتوة إنه لن يعود هو ووالده وجيرانهما الا اذا رأوه يعاقب الرجل الذى اعتدى على السيدة، واعادة ما اخذه منها سطوا وعنوة.

وتغير اسلوب الفتوة فى الحديث، وتحول صوته الى ما يشبه الزئير، طالبا من مساعده عطوه ان ينهض ويلقن هذا الصغير الارعن درسا لن ينساه، وقام عطوة وتقدم خطوات من عصام رافعا النبوت ليضربه به، فاذا بجسم الفتى يتحول الى كرة من المطاط ويقفز فى الهواء ويضرب بقدميه الاثنين وجه البلطجى عطوة، فاذا به مرمى فوق الارض، ونهض صبى آخر من صبيان الفتوة، رافعا نبوته، فعالجه عصام بقفزة اخرى ليرتمى بجوار صاحبه، وهنا رمى الفتوة مبسم الشيشة وخرطومها جانبا، وتحرك كأنه قلعة تمشى، مادا ذراعين كذراعى البلدوزر، لكى يمسك بهما الفتى عصام من كتفيه، لكن الفتى استطاع بمرونة جسمه، ان يفلت من يدى الفتوة، ويقفز احدى قفزاته البهلوانية فى الفضاء، ويستخدم قدميه فى تسديد ضربة قوية الى رأس الفتوة، تداعى على اثرها وتمايل حتى كاد ان يسقط فوق صاحبيه، الا ان متانة جسمه وقوة بنائه، ساعداه على استعادة توازنه، مادا ذراعيه للفتك بالفتى، الا ان الفتى قفز مرة ثانية وثالثة ورابعة وفى كل مرة كان يسدد الضربات الى الفتوة مرة على وجهه، ومرة على راسه، ومرة استهدف انفه الذى صار ينزف دما، حتى تركه جسدا هامدا فوق الارض. فر صبيان الفتوة هاربين صائحين، قائلين ان هذا الصبى ليس انسانا انما كائن معجون بماء النار مثل المردة والعفاريت، وتعالت اصوات الرجال الذين جاءوا الى المقهى اثر نشوب المعركة، يصنعون زحاما حول المتصارعين، يهتفون فرحا بسقوط الفتوة الظالم، واقتصاص الصبى عصام منه ومن عصابته، ويطالبونه بان يكون هو الفتوة الجديد، الا ان الصبى لم يكن يريد ان يكون فتوة جديدا، فهو طالب جامعى يريد ان يواصل دراسته، كذلك والده الذى كان يتمنى ان يرى امنا فى الحى يتحقق بفعل الحكومة وشرطتها وليس عن طريق عصابات الفتوات، فذهب مع ابنه الى مديرية الشرطة، لابلاغها بما فعله الفتوة من اعمال الاجرام والاعتداء والسطو على الناس، وان حى الدراسة الان لا يرغب فى ان يأتيه فتوة جديد، وانما يطالبون بان تبسط الشرطة نفوذها، فاستجابت مديرية امن القاهرة الى هذا الطلب، واحالت الجزء الذى كان يحتله الفتوة فى المقهى محلا مؤقتا لنقطة الشرطة، الى حين اعداد مركز يتولى ادارة الامن فى حى الدراسة، وكانت تلك هى آخر عهود الفتونة فى ذلك الحى، وبداية انتشار مراكز الشرطة فى احياء القاهرة التى كان يديرها مثل ابو شادوف وصبيانه، لينتهى العهد الذى صاغ منه عبقرى السرد القصصى والروائى نجيب محفوظ عالمه القائم على حكم هؤلاء الفتوات الذين تفاوتت اساليبهم فى الحكم بين ظالم مستبد وبين رجل يحمل اصالة ابن البلد وحبه للخير والعدل.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق