رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المخزنجى.. صياد المعانى ــ 3

نصل فى رحلتنا مع صياد المعانى محمد المخزنجى إلى قصته «صياد النسيم», التى تضمها مجموعة تحمل نفس العنوان صدرت منذ أسابيع (دار الشروق - 2018). ورغم ازدحام المجموعة باللآلئ، رأينا أن نركز على قصة «صياد النسيم», لا لأنها واسطة العِقد فحسب, ولكن لأن المخزنجى أفلح بين سطورها فى أن يصطاد جوهر ما نعانيه فى تاريخنا الحديث من أزمات نتجت عن تطبيق أعمى للحداثة لا يراعى الطبيعة الخاصة لوطننا؛ فلا يُبالى مثلاً - إذ يسجن الناس فى مكعبات نمطية من الإسمنت والزجاج والمعدن - أن شقة الأحلام التى دفع فيها المواطن شقاء العمر تمخضت عن فخ حراريّ منخفض السقف, كأنه تجسيد أرضيّ لحفرة من حُفر الجحيم. فالبناؤون, فى عاصمتنا المثقلة بالناس والغبار, ينسون أننا ننتمى لإقليم حار زاده التلوث احتراراً, فإذا كانت الشقة- التى هى بلا شرفات ولا شيش للنوافذ- قِبلية, فإنها حقاً مصيدة!

هكذا كانت شقة بطل الحكاية وراويها, صياد النسيم الذى وقع فى ورطة انعدام الخيال والضمير لدى البعض, فدفع كل ما يملك فى شقة قبلية مختومة بالمعدن والزجاج, وتطل - إن فتح الزجاج متلصصاً - على الضجيج والدخان وعين الشمس المستعرة. ولكن, لأن مصر عامرة بالعقول المبدعة, فإن بطل القصة وحاكيها يتوصل لحل عبقري: مدخنة عكسية؛ أنبوبة مبطنة برقائق الألومنيوم لعكس أشعة الشمس وحرارتها, تصعد من فتحة قرب السقف فى غرفة المعيشة حتى سطح العمارة, حيث تتسع فوهتها كبوق الجرامافون؛ كفم واسع نهم جائع للنسمة الباردة, يصطادها ويزدردها عبر بلعوم ومريء الأنبوب, المعالج بتفاصيل لا محل لذكرها هنا, حتى تصل النسمات مُصَفّاة لضحية الحرارة الخانقة الذى تحّول بقدرة الخيال المصرى الخصب إلى صياد للنسيم. رجل الحكاية ليس عالماً ولا مهندساً؛ هو فأر حبيس متاهة حرارية يعمل محاسباً فى شركة, اهتدى إلى باب الخروج من ورطته بذكاء فطري, وباطلاعه على كتاب «عمارة الفقراء» لحسن فتحي, المعماريّ الذى استلهم فى مشروعه الريادى لإسكان رخيص رحيم ابن بيئته, استلهم تقنيات البنائين المحليين القدماء - فى قرية «القرنة» بجنوب مصر على سبيل المثال - الذين توصلت خبراتهم المتراكمة عبر آلاف آلاف الشموس الساخنة إلى حلول بسيطة غير مكلفة للتغلب على حر الصيف الطويل. تبدأ قصة المخزنجى باستشهاد من كتاب «حسن فتحي» العبقرى «المغدور» الذى يقول الراوى عنه وعن مشروعه: «بقدر ما نجح فى ترك تراث مبكر التأثير فى العمارة البيئية فى العالم, بقدر ما وُضعت فى وجهه العراقيل ليفشل لدينا, فما بالكم بواحد مِثلي..». إلا أن بطل الحكاية نجح فى اختراعه ابن بيئته, واستطاع بتكاليف بسيطة أن يحوّل شقته القبلية إلى جنة. لكن بيئته عادت وهزمته بمشاكلها الصميمة: الفقر تسلل إليه, عبر الأنبوب الفذ صياد النسيم, تسلل فى شكل دودة بشرية, كدودة البلهارسيا التى طالما أتلفت أكباد عباقرة المصريين. إنسان مصرى منسحق أجبره الفقر أن يزحف كدودة منذ أن كان صبياً ضئيل الجسم فى إحدى القري, يستخدمه صناع السواقى ليتلوى داخل تجويف الساقية مثبتاً أجزاءها. وحين كبر جسم الصبى صار عاطلاً, إلا من موهبة التلوى والزحف كدودة بسرعة خارقة. وبالصدفة اكتشفه قرداتي, فضمه إلى استعراضه الفقير الذى يتكون من قرد عجوز وكلب أجرب. لكن الزمن والداء ما لبثا أن أتلفا تلك الدودة البشرية, فاستغنى عنها القرداتى لتواجه الجوع وحدها, حتى اكتشف الرجل/ الدودة بالصدفة فتحة الأنبوب المؤدى إلى شقة المحاسب المخترع, فأراد أن يتسلل إليها ليسرقها.. والأسبوع المقبل إن شاء الله نستكمل الحكاية.


لمزيد من مقالات بهاء جاهين

رابط دائم: