تعكس الأصولية الإسلامية نمطا عنيفا من رفض الحداثة السياسية؛ نشدانا لحكم فردوسى يتصوره الأصوليون أنه ممكن بل إنه كان قائما، ولابد من استعادته استنادا إلى تأويل دينى ضيق الأفق يتجاهل حقيقة أن نظم حكم متقادمة تستطيع أن تلهم زمنا حاضرا أو مستقبلا آتيا لمجرد أنها تحمل شعارا جذابا، لكنها تبقى فى الحقيقة عاجزة عن مقارعة مثل الحداثة السياسية كما تطورت فى القرنين الماضيين على الأقل: فلا الدولة القومية يمكن تجاوزها، ولا العلمانية السياسية يمكن التنكر لأهميتها، ولا النزعة الفردية يمكن الخلاص منها، ولا الديمقراطية يمكن تجاهلها باعتبارها الثمرة الجميلة لهذه المتوالية، لا يمكن التنازل عنها.
تتجذر الأصولية الإسلامية فى تقليدين رئيسيين، مع اختلاف بينهما فى الحجم الديموجرافى والامتداد التاريخي: الأول شيعي، أقل عددا وانتشارا، يرتبط بنظرية الإمامة التى انبثقت عن المذهب الاثنى عشرى الذى جسد بدوره نزعة مهدوية؛ تقوم على عقيدة المهدى المنتظر. والثانى سنى هو الأكثر عددا والأوسع انتشارا، ويرتبط بنظرية الخلافة. الأخيرة كانت هى الحاضرة بالفعل طوال التاريخ، تفاعلت معه، وتطورت فيه، وتأثرت بخشونته مثل سيارة تتحرك على أرض مليئة بالكثبان الرملية. أما النظرية الأولى / الإمامة فقد استمرت مجرد حلم، يوتوبيا سياسية ذات طابع خلاصي، لم تتجسد واقعيا؛ ومن ثم ظلت حركتها فى التاريخ أقرب إلى حركة طائرة فى فضاء أملس، تطل عليه من فوق ومن بعيد من دون اصطدام مباشر. نعم عانى الأئمة، خصوصا الحسين، الكثير من الخشونة التى نالت من دمائهم، ولكن كأفراد معارضين لسلطة قائمة، بينما استمرت النظرية نفسها بعيدا عن التجربة، لم تُختبر فى الواقع، وإن تطورت فى الفقه. أما الأمر الذى جمع بين النظريتين، بغض النظر عن الحضور والغياب، فهو سقوط الإنسان من قائمة انشغالاتهما، نعم يبقى هذا الإنسان حاضرا كمسلم يتلقى التكاليف، أو كأحد الرعايا الذين تمُارس عليهم السلطة، ولكنه غير موجود كفرد حر، ففى مقابل التنظير الدائم للحاكم كان ثمة التحقير الدائم للمحكوم، حيث إن جمهور الناس (الأمة) لا دخل له فى عملية تعيين الحاكم. شيعيا كانت المسألة محسومة بالطعن على شرعية الاختيار البشرى من حيث المبدأ فالإمام يقتنص الحقيقة الباطنة من أفق الغيب فلا يمكن لبشر أن يحاسبه. وسنيا كان الاختيار منوطا بعدد محدود من (أهل الحل والعقد)، ما يعنى تمييز فئة من الأمة على غيرها فى اختيار الخليفة، وإقامة السلطة، فكل ما يقع عليه اختيار هؤلاء يكون واجبا على الأمة قبوله من دون نظر أو نقض؛ حتى لا تتعرض وحدة الجماعة الإسلامية للشرخ، ويُزرع فى صفوفها الفتنة، ومن ثم فلا معنى للقول هنا بأن الأمة هى مصدر السلطة تمارسها من خلال «نوابها» و«وكلائها» لأن مثل هذا التأويل يسقط معنى الدولة الحديثة (الليبرالي) على معناها التقليدي، ناهيك عن أنه يتجاهل أن أهل الحل والعقد ليسوا منتخبين من الأمة أساسا كى تكون لهم تلك الصفة التمثيلية القائمة فى الدول الديمقراطية. وفضلا عن ذلك تبقى حقيقتان: الأولى هى أن أهل الحل والعقد كانوا دوما من جسم اجتماعى لصيق بالسلطة القائمة، ومكانتهم الاعتبارية إنما تنبع من هذه الصلة؛ إذ لم يكن أحد آخر من المسلمين غير الخليفة قادرا على أن يحدد من هم أهل الحل والعقد؛ فوحده كان يسميهم ويمنحهم امتياز التمثيل والاختيار والنطق باسم الجماعة، رضيت بهم تلك الجماعة أم لم ترض. أما الثانية فهى أن دور أهل الحل والعقد كهيئة مختارة لها قدر من التمايز والتحديد على الطريقة التى صاغها الفاروق عمر بن الخطاب لاختيار خليفته، لم تتكرر كثيرا، حيث حل محلها دائرة وظيفية قوامها علماء / فقهاء الدولة الرسميون الذين طالما كانوا فى الأغلب علماء سلطان.
وعلى هذا كانت النظريتان: الخلافة السنية، والإمامة الشيعية، بمنزلة نظرية فقهية عن الحاكم وليس نظرية سياسية فى الحكومة أو الدولة، ومن ثم استمرت كلتاهما قاصرة عن تجسيد أى ضوابط سياسية حقيقية تنظم إطارا للشرعية، واستمر مفهوم كالحرية، بالذات، مقصورا على المعنى الأنطولوجى لها أى فى مقابل الله حسبما تصوغها عقيدة القضاء والقدر التى تجادلت كثيرا حولها الفرق الكلامية، خاصة المعتزلة والجهمية والأشاعرة، أو حتى على المعنى الاجتماعى لها كمقابل للعبودية، فالإنسان الحر ليس هو الشخصية التى امتلكت فرديتها وصاغت من خلاله عالمها بل سيطرت على مصيرها، بل هو فقط من ليس عبداً بالمفهوم القانوني/ الفقهي. أما المفهوم السياسى لها فكان غائبا تماما، حيث لم تتطور ثقافتنا الموروثة مفاهيم أو تصورات من قبيل الديمقراطية والليبرالية والنزعة الفردية، وكان ذلك مبررا لأن جميع تلك المفاهيم بنات عصر الحداثة السياسية.
اليوم، نجد أنفسنا أمام مفارقة، حيث حضر الغائب وغاب الحاضر؛ فالإمامة الشيعية الغائبة عن التاريخ عادت عبر صيرورة تطور العقيدة المهدية من ميثولوجيا دينية إلى مفهوم سياسى تاريخى عن ولاية فقيه (الخميني) استولى على الحكم من الشاه محمد رضا بهلوي، وتمكن من صياغة نظام حكم يمارس أصوليته رسميا باسم الدولة، على ذلك النحو الذى تمثله إسرائيل كدولة دينية، تم استعادتها من رحم التاريخ باسم فكرة ميثولوجية كذلك، وإن كانت هذه الفكرة شيعية مهدوية إسلامية هنا، ويهودية مشيخانية هناك. وفى المقابل أخذت نظرية الخلافة، التى ملأت التاريخ بحضورها، فى رحلة غياب ممتدة منذ سقوط الدولة العثمانية عام 1924م؛ فلا تكاد توجد دولة تحكم رسميا باسم الخلافة، بينما يرفع لواء تلك الخلافة جماعات معارضة تتسم بدرجات مختلفة من المطامح السياسية والمعارضة غير المنظمة أو الشرعية لنظم الحكم القائمة؛ ومن ثم يتورط أغلبها فى ممارسة عنف جهادى عبثي، وبعضها فى علاقات إشكالية مع الغرب، إذ تجمع بين خطاب كراهية معلن، وممارسات سياسية تنتمى إلى العمالة، والنتيجة أنها تظل عاجزة عن مقارعة الغرب عسكريا أو فرض موقف سياسى واحد عليه، بينما تكاد تفتك بالمجتمعات العربية المتمدينة، على ذلك النحو الذى بلغ ذروته فى النموذج الداعشي.
[email protected]لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم رابط دائم: