الشائع بين المؤرخين وجماعة العلوم السياسية أن الفترة الثانية لحكم رئيس الجمهورية تكون أكثر صعوبة من الأولى رغم أن المنطق يقول إن خبرة الفترة الأولي، وما حدث فيها من وضع أساسيات الحكم ومنهجه، يفترض فيها أن تكون فترة الحصاد لما جرى زرعه من سياسات فى المرحلة السابقة. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فالظروف دائما متغيرة، كما أن نجاح الفترة الأولى يرفع سقف التوقعات الشعبية فى المرحلة الثانية، وفى منطقة مثل الشرق الأوسط فإنها دائما حبلى بالمفاجآت التى لا يعرف أحد إلى أين تمضي. وبالنسبة لمصر فإنها مرت بمرحلتين متغيرتين خلال السنوات السبع الماضية، الأولى جرت فيها ثورة يناير وما أعقبها من أحداث، وما جرى فيها من ركود لخطط التنمية وانحراف عن الخط المدنى للدولة؛ والثانية بدأت بثورة أخرى أعقبها مواجهة صعبة، ثم بدأت الفترة الأولى للرئيس السيسى, وحينما انتهت كان كشف الحساب عاكسا لإنجازات ملموسة. ومن تابع مؤتمر «حكاية وطن» فإن نضجا بات واضحا على النخبة الإستراتيجية للقرار، وأن المعادلة الأساسية للسياسة قد باتت السير فى مسار التنمية بعزم كبير، ومقاومة الإرهاب بحزم شديد. هذه الصيغة باتت تلخيصا لاسراتيجية عريضة قوامها التنموى يقوم على تنفيذ أهداف «رؤية 2030»، وعمود فقرها فى مقاومة الإرهاب هى مطاردته وفى نفس الوقت تعمير سيناء، ومواجهة الفكر الإرهابى فى ذات الوقت. كانت الشهادة الدولية التى جاءت فى تقرير صندوق النقد الدولى فى مراجعته الثانية لبرنامج الإصلاح الاقتصادى المصري، مؤكدة مصداقية النتائج التى توصل إليها المؤتمر، وكلها مبشرة بأن السبع سنوات العجاف التى مرت بها المحروسة قد ذهبت، وأنه من الممكن أن يعقبها سنوات سمان ليست بالضرورة سبع، ولكن فيها سوف يرتفع معدل النمو، وتنخفض الأشكال المختلفة للعجز، وكذلك الحال فى التضخم والبطالة، إلى آخر المؤشرات الكلية للاقتصاد.
المؤتمر والتقرير أعطيا قدرا غير قليل من التفاؤل حول المستقبل المصرى وما فيه من تقدم؛ ولكن «التقدم» كفكرة وواقع هى حالة معقدة، وبقدر ما يحدث فيه من تغيير فإنه يفرض تحديات جديدة ربما كانت أكثر صعوبة مما سبقها، وكل ما يحدث هو الانتقال إلى مستويات أعلى من التحدي. سوف نترك جانبا الآن التحديات الإقليمية والدولية، وفى هذا المقام فإنه قرب نهاية الفترة الأولى فإن الانتهاء من التعداد العشرى لمصر وضعها مباشرة على أبواب الفترة الثانية والذى وضع مصر كلها أمام عدد من الحقائق المرة التى تفرض نفسها على جدول أعمال الدولة خلال السنوات الأربع المقبلة. التحدى الواضح الذى لا تخطئه عين هو الزيادة السكانية التى وضعتنا مباشرة فى مواجهة ملايين البشر واحتياجاتهم. وإذا كان معالى الوزير الآن أبو بكر الجندى قد لخص خطورة المسألة السكانية فى أنها أخطر من الإرهاب عندما كان قائدا للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، فإنها تحمل معها تحديات متنوعة منها الفقر والأمية وكلاهما يدور حول 27% من السكان. هنا فإن المشكلة السكانية لها ثلاثة أوجه: أولها كمى يتعلق بالعدد واحتياجاته من عمل وسكن وفرص عمل أى استثمارات. وثانيها نوعى يتعلق بنوعية البشر وما لديهم من مهارات وتعليم وصحة وقدرة على المبادرة والابتكار والتعامل مع عصر من التقدم العلمى والتكنولوجى لم تعرفه الإنسانية من قبل. وثالثها توزيع السكان على أرض الوطن فالحالة فى مصر كانت دائما منحازة لوادى النيل بينما بقيت السواحل والصحارى فارغة ومنكشفة أمنيا وسكانيا واقتصاديا. ولعل ذلك يخلق مهمة أخرى لوزارة التنمية المحلية ووزيرها يكون النجاح فيها بقدر النجاح فى وصف وتوصيف المشكلة.
ما سبق كله يشكل قائمة أعمال طويلة مع الاستمرار فى تطوير الإصلاح الاقتصادى لكى يكون وفق معدلات أسرع فى النمو والانتشار. ولكن مثل هذا لا يمكن أن يحدث دون تعبئة للموارد البشرية السياسية المصرية التى تقود المرحلة المقبلة. وبقدر ما كان مؤتمر «حكاية وطن» وتقرير صندوق النقد الدولى مبشرا، فإن التطورات السياسية التى حدثت فى أعقابهما كانت منذرة، فقد أسفرت عملية الترشح للمنصب الرفيع لرئيس الجمهورية عن فشل كبيرفى السير على طريق عملية تنافسية تكون سبيلا لبناء تحالف تنموى عريض يسهم فى الأخذ بيد مصر إلى مستقبل مزدهر. وفى الحقيقة أنه لا توجد نية هنا للبحث فى أسباب ما جرى فى مطلع الأسبوع الماضي، ومدى المسئولية التى تقع على كل طرف فى الوصول إلى هذه الحالة، ولكنها سوف تظل تمثل تحديا مهما أمام الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى سوف يحمل أمانة إعداد الأمة لمرحلة ما بعد عام 2022 وسيرها على الطريق حتى يكتمل تنفيذ رؤية 2030. الشواهد حتى الآن تقول إن الرئيس يضع رهانه على الشباب خاصة هؤلاء الذين دخلوا فى مراتب مختلفة لإعداد القادة, وهو منهج سوف يكون مفيدا فى الإعداد للكثير من المناصب التنفيذية والقيادية فى المحليات. ورغم الأهمية الفائقة لذلك، فإنه لا يوجد مجتمع يمكنه الهروب من السياسة وما فيها من منافسة فى القدرة على تجميع المصالح فى مجتمع تعددى بين ريف وحضر، وساحل وبادية، وشمال حيث الدلتا وجنوب حيث الصعيد، وفيه طبقات متعددة وشرائح اجتماعية متنوعة، دونما بلورة سياسية تعمل أن تجعل كل ذلك يتحرك فى منظومة واحدة لتحقيق أهداف قومية.
التحديات السكانية والسياسية ـ وهناك تحديات أخرى لا تقل أهمية فى الداخل والخارج من الإرهاب إلى المياه إلى المنافسة مع دول سبقتنا وأخرى لحقتنا ـ تدعو إلى حوار وطنى عام مع أول عام فى الفترة الرئاسية الثانية يأخذ دروسا مما حدث خلال المرحلة الأخيرة. وبصراحة فإن القانون الخاص بالانتخاب لا يخلو من عيوب تفسد فى ظل الظروف المصرية القدرة على المنافسة. كما أنه ليس من المعقول أن يكون فى مصر 104 أحزاب سياسية مسجلة وشرعية وكلها تعجز عن وضع مرشح لرئاسة الدولة؛وهل من الممكن أن تكون انتخابات المحليات المقبلة استئنافا لحالة عدم الفاعلية السياسية فى البلاد؟. أسئلة كثيرة كلها تحتاج إجابات ضرورية لحوار مثمر.
لمزيد من مقالات ◀ د. عبدالمنعم سعيد رابط دائم: