رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

«دون جوان» إمام المتحرشين فى فلسفة الفجور!

كسر جدار الصمت الذى يحمى التحرش الجنسى فضيلة من أبرز معالم العالم الجديد الذى نعيشه.. التطور التكنولوجى فى الاتصال وإتاحة المعرفة على نطاق غير مسبوق، أجرى مياها غزيرة فى نهر حياتنا، فانتفاضة المجتمعات المتقدمة ضد حوادث التحرش، من نجوم المجتمع المتحرشين، الذين ظنوا أن قوتهم الاجتماعية ساتر مانع ضد محاسبتهم على جرائمهم، شجعت قطاعات جريئة، خاصة من شبابنا ، من المشرق إلى المغرب، للتصدى لهذه الظاهرة الاجتماعية، التى استفحلت فى مجتمعاتنا، لأنها لم تجد من يردها، فأصبحت داءً اجتماعيا، يتعامل معه الناس، تعامله مع أكوام القمامة فى كل مكان، دون أن تستفز أحدا بقذارتها!.

التحرش موجود فى كل مكان، ويصدر من جميع المستويات الاجتماعية، وللغرابة فإنه قد يصدر أيضا من المرأة! ولكن هناك فرق بين أن يكون التحرش حوادث عرضية، تخص أصحابها، وكل حسب مرضه النفسي، وبين أن يكون أمرا شائعا، فيصبح مرضا اجتماعيا وثقافيا، لابد من فهمه، والتصدى له بكل الطرق التربوية والقانونية المتاحة.

وقد تناول كبار الأدباء ظاهرة التحرش لرسم أبعادها وأشهرها (دون جوان)، الأسطورة الإسبانية فى قصة «ماجن اشبيليه»، التى تناولها فيما بعد العديد من الأدباء، على رأسهم لورد (بايرون) الشاعر الإنجليزي، الذى كساها بسماتها الفردية، كظاهرة إنسانية معقدة، وكذلك الكاتب الفرنسى (مولير) والإنجليزى (برنارد شو)، وكذلك كانت من أشهر الأوبرات التى قدمها الموسيقار العالمى (موتسارت)، ومازالت هذه الشخصية تقدم فى مسارح العالم، ومادة خصبة للاستغلال الفني، لإظهار أبعاد فلسفية وإنسانية متباينة، من التمرد على التقاليد، أو فضح النفاق الاجتماعي، من خلال نمط (دون جوان) الفاسد، فهو إمام المتحرشين، وقادر على تبرير منطقه، فى ملاحقة آلاف النساء، والتغرير بالفتيات الساذجات!.

يقول (دون جوان) لتابعه (ساناريل)، الذى يحتقر مخازى سيده: هل تريد أن يجبر الرجل على أن يظل مرتبطا بأول امرأة استولت على قلبه، وأن يهجر العالم من أجلها؟! وألا ينظر إلى امرأة أخري؟! إن الثبات لا يلائم إلا البلهاء من الناس، جميع الحسناوات لهن الحق فى أن يسلبن لبَّنا، ولا يصح أن يكون لأول حسناء التقينا بها الحق فى أن تسلب الأخريات نصيبهن العادل فى قلوبنا، أما من جهتى فإن الجمال يبهج نفسى أينما وجدته، وما أسهل ما أنقاد إلى قوة جاذبيته العذبة، مهما ارتبطت بحسناء، فإن الحب الذى أكنه لها، لا يحملنى على ظلم الأخريات، إن لى عينين أحتفظ بهما لأرى مزاياهن جميعا، ولو عندى مائة ألف قلب، فإنى أهبها جميعا للمرأة الجميلة، فالعاطفة الوليدة لها سحر يقصر دونه الوصف، ولذة الحب فى التنقل، وأن الإنسان ليشعر بمتعة كبرى حين يخضع قلب فاتنة بمئات العبارات الدالة على الحب والوفاء، وحين يقودها إلى حيث يريدها أن تذهب، عندها يصبح الرجل سيد الموقف، إن كل جمال الرغبة قد انتهي، حتى يظهر حب جديد يوقظ رغباتنا، وتفرح قلوبنا بغزو جديد، إننى أشعر فى قرارة نفسي، أن لى قلبا يستطيع أن يحب العالم... فكان خلاصة رد (ساناريل) عليه أن من يعيش حياة شريرة، يموت ميتة شريرة، وهو ما حدث فلم يبك عليه أحد.

هذا منطق (دون جوان) فى علاقة الرجل بالمرأة، منطق الذئب الذى يسعى لاقتناص فرائسه دون تمييز، أو تدقيق فيما يفترس لأنه لا يسعى إلى إقامة علاقة ذات معنى قابلة للدوام، ولكنها صيد لما تستطيع يده النجسة فى الوصول إليه، بلا اعتبار أو احترام، علاقات عابرة يستطيع تحملها، فالمعانى العميقة لا يفهمها ولا قدرة نفسية وعقلية ليطيقها، وفلسفة الفجور هذه تبرر له الجرى وراء الجميلات، أو حتى القبيحات، لإرضاء نفسه الخاوية وعقله المغيب، الذى يقف عند حد إدراك الجمال الحسى الظاهري، ولا قبل له بالجمال الباطني، الذى تقوم عليه علاقات الحب الدائم، المتجدد باستمرار بفضل الانتقال من الإدراك الحسى الأولي، الذى يشمل الجميع ويصل حتى للبهائم، إلى الإدراك المعنوى الباطني، الذى يكمل الإدراك الظاهري، فلا ظاهر وحده ولا باطن وحده، فكلاهما معنى واحد لرؤية مكتملة للظاهر والباطن معا، وتلك قدرة إنسانية لا قبل لمنطق المجون والفجور به، فقد توقف الإدراك عند طور البهائم الحسى الظاهرى فقط!.

قد يشترك معظم الرجال فى إدراكهم الحسى للجمال الأنثوى وينجذبون إليه، ولكن القلة من تدرك قيمة المرأة وأنوثتها وهو ما يعود لنوعية التربية، والعوامل المؤثرة على العملية التربوية، والتى تؤثر فيها فلسفة المجتمع ورؤيته للمرأة، ما يشكل اتجاهات اجتماعية عامة نحو المرأة، وطبيعة دورها ومكانتها، وظاهرة التحرش تكشف الخلل الاجتماعى فى غواية الاعتداء على المرأة، وكذلك الأطفال، باعتبارهم «الحيطة المائلة» غير القادرة عن الدفاع عن نفسها، أمام المرضى المهووسين بالجنس هربا من تقديرهم المنخفض لذواتهم الهشة الذليلة، بتقمص شخصية المعتدى القوى للتخلص من مشكلتهم النفسية المهينة العميقة، والعجز عن الإدراك المكتمل لقيمة المرأة، التى تمثل نصف المجتمع، وتتحكم فى نصفه الآخر!

ما نحتاجه هو الإصلاح الاجتماعي، المستند إلى نتائج العلوم مجتمعه، فى علم النفس والاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد مع العلوم الدينية..، لكن البداية تبدأ بالكف عن الصمت، وإدانة الضحايا، فالصمت هو الإغواء الأول نحو فلسفة الفجور الحيوانية، التى لا تدرك حجم انحطاطها ما يخرجها من دائرة الإنسانية وياللعار!


لمزيد من مقالات ◀ وفاء محمود

رابط دائم: