رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

إيزادورا .. «أيقونة عشق» احتضنها النيل

ايمن السيسى

ضحية الحب طواها النيل قبل 2000 عام فصار قبرها مزارا للعاشقين

عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين تخير استراحته بجوار مرقدها

.. وقبيل كل غروب كان يسرى إليها ليوقد لها سراجاً

مقبرتها «الجنائزية» شيدت على شكل معبد.. ومرثيتها الوحيدة من العصر اليونانى



 

يمتد سر كون الله فى مصر بامتداد النيل، ومثلما هو رواء للعطشى وللزرع، ظل طوال تاريخه إلى المصب نسمة شمالية على خدود العاشقين. يلامسون بأناملهم أمواجه الهادئة لينبت الأمل على ضفتيه ويغرفون منه بأكفهم الصغيرة غرفة يتقاسمونها أو ينثرها أحدهم على وجه حبيبه، وظل النهر نفسه مسرحاً لموت العشاق غرقاً أو قرابين له، مثلما حدث لـ «إيزادورا» التى استشهدت عشقاً فى النيل ، عندما أطاحت الريح بقاربها الصغير عند محاولتها العبور للشرق للقاء حبيبها ، فاختل توازنها وسقطت ، لتعود جثماناً يرقد منذ أكثر من ألفى عام يشع نورا فى «تونا الجبل» التى كانت فى العهدين الفرعونى والرومانى مدينة المقابر وسكناً للموتى، كما خطط الفراعنة لغرب النيل على امتداده فى الصعيد.

.....................................

هربت فى ليلة ظلماء إلى عشيقها، كان عليها أن تعبر فى قارب صغير إلى ضفة النيل الأخرى، وقيل إنها انتحرت بسبب محاولة أبيها وأد علاقتها بعشيقها المصرى ، فدفعتها لواعج الحب والشوق إلى الوصول فطاردها الحراس مما أربك جلوسها فى القارب فاختل توازنها لثقل «المجداف» على يديها الصغيرتين فسقطت فى النيل، ماتت غرقاً وعشقاً، ولم تبلغ ثمانية عشرة عاماً بعد ، فجع فيها الوالد الرافض لتمام العشق ، وأيضاً العاشق المهزوم بالفقر، تنازعا جثمانها، أراد حبيبها أن يدفنها عنده فى مقبرة قريبة ويتصدق على روحها بالقرابين، ولكن أبوها «أنتينوبوليس» حاكم الإقليم الخامس عشر (المنيا) لم يقبل، فحنط جثمانها، وسجل على جدار مقبرتها الخارجى حكايتها ورثاها بقلب موجوع.

اكتشف عالم الآثار المصرى سامى جبرة هذا المنزل (المقبرة) ــ فى حفائر د. سامى جبرة التى تمت بالمنطقة خلال الفترة ما بين 1932 إلى 1935ــ ووجدت المقبرة مهدمة إلى حد ما بسبب نبش لصوص الآثار لها، ومومياء إيزادورا كانت موضوعة فى الأساس على السرير الجنائزى الموجود بالمقبرة، وفى يدها اليسرى خاتم من الذهب ذو فص من زبرجد (حالياً بالمتحف المصرى بالقاهرة)، وعند تطوير المنطقة فى بداية التسعينيات تم عمل صندوق زجاجى لحماية المومياء حفاظاً عليها من العبث.




ويجاور البيت الجنائزى لإيزادورا مقبرة «روتزريوس» وزوجته، التى نقش على جدرانها ما يصور صناعة التوابيت الخشبية والحجرية وزراعة العنب وعصره للخمر، وزراعة الكتان وتربية المواشى، ولوحة الوصايا باللغة الهيروغليفية مع صورة «روتزريوس» وزوجته وبناته الثلاث، إحداهن ترتدى فى قدمها اليسرى خلخالا (علامة الخطوبة)، ومن الوصايا «أنصبة الميراث» المقبرة يزورها بعض السياح وكثير من طلبة المدارس، ويمكن ربط مزار العشق «إيزادورا» مع المزارات السياحية فى الفيوم وبنى سويف، مثل هرمى ميدوم وسقارة مع الأشمونيين، خصوصاً من الطريق الصحراوى الغربى. بيت إيزادورا وحكايات عشقها الكثيرة والروايات المختلقة عديدة، كل عاشق يحكى من زاوية عشقه، وكل عاشقة تسمع من حكايتها ما يناسب قصتها ، مما تداول فى كتب الرحالة والأثريين ما جعل رؤية مومياء إيزادورا «أيقونة عشق» تمارس طقوس وصلوات الحب أمامها، وصارت قبلة للعاشقين من أوروبا وأمريكا واليابان ، يفدون إليها فى الشتاء – شهر فبراير – جماعات يصطفون أمام بيتها الجنائزى، يرفعون أياديهم فى حركات هندسية مستقيمة ودائرية أشبه ببعض حركات المولوية فى رقصتهم الشهيرة ، وحركات أخرى تماثل فى بعضها – كما قال حارس المقبرة – صلاة المسلمين، خصوصاً عند التشهد، ولكن وقوفاً ثم يرفعون وجوههم وأياديهم ويتمتمون بكلمات تعبدية ، بعدها يلقون نظرة وسلاماً على جثمانها المسجى حزيناً ويخرجون.

إليها شددنا الرحال بعد عصر يوم شتوى، رغب مضيفنا أن يُتاح لنا وقتا قبل إغلاقها، سألنا الحراس أن نترجل، فالسيارات ممنوعة من الاقتراب من حماها، ولا حتى استراحة عميد الأدب العربى، رأيته الرأى الأوفق، فحق لشهيدة الحب وشمعة ليل الصعيد أن نخف لرؤيتها سيراً تغبر ملابسنا الرمال ، وتلفح وجوهنا رياح الشتاء الصقيعة. عندما اقتربنا لم نشعر بالبرد وكأنها قد أدفأت موطن رقدتها بحرارة عشقها.

شغف بها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فجاورها فى استراحة أقامها ليقضى فيها أيام الشتاء، لا تبعد عن مرقدها مائتى متر، وقبيل كل غروب كان يسير إليها ليشعل لها سراجاً وهو يقول لمكتشفها عالم الآثار الدكتور - سامى جبرة – أن نسير لها أمتاراً ونسرج لها أنواراً أقل مما كان يفعل حبيبها «حابى».


هنا ترقد مومياءإيزادورا


لم يفد إليها سياح سابقون لنفس طقوس العشق إلى أن يتم حفظ الجثمان داخل تابوت زجاجى فى منتصف التسعينيات، قبلها كان ملقى دون عناية فوق مصطبته، لكن العاقرات من أهل القرى فى المنيا وأسيوط كن يتبركن بها أملاً فى الخلاص ونفخ الروح فى أرحامهن طمعاً فى الحمل والإنجاب لاستمرار زيجاتهن، كن يضعن الجثمان على الأرض، يمارسن فوقه طقس التخطى «سبع مرات» اعتقاداً فى البركة، حتى أقدمت هيئة الآثار على حماية مومياء «إيزادورا» من العبث بحفظه فى تابوت زجاجى فوق قاعدة صخرية، تغيرت الطقوس، بدلاً من تخطى العاقر فوق المومياء أصبحن يدرن حوله فى تابوتها الزجاجى «سبع مرات» ولكن فى أيام الجمعة فقط، ويفضل، حسب معتقداتهن، أن يكون أثناء «اللهيف» – الهواء الحار – رياح الجنوب، ويختمن طواف الحمل بالتبرك بـ «حجر الدم» الكتلة الحجرية التى كان يتم ذبح الونيسة (القربان) عليها بجوار الساقية التى تعد نموذجاً إبداعياً لعمارة العصر الرومانى – فى مصر – وكانت وظيفتها رفع المياه من عمق الأرض، وهى أقدم ساقية بقيت فى مصر من العصر اليونانى، كانت تروى زراعات كهنة الآلهة وتحفظ المياه فى أحواض مقدسة ليشرب منها طائر السمون المقدس (أبو منجل) – إله الخلق – الذى اكتشف عدد هائل من مومياواته فى توابيت خشبية وفخارية مع مومياوات البابون (القرد المحنط) فى سراديب ممتدة تحت الأرض بالقرب من «إيزادورا» منذ عدة أشهر.

قال أحد الحراس: «حدث حمل لعدد من النسوة، ربما شاء الله. وكأننا نملك إجابة، سألنا: هل فعلاً لمومياء الفتاة سر فى حمل النساء؟ وأضاف : أحضر البعض لنا هدايا لأن زوجاتهم حملن بعد الزيارة، ورجل من أسيوط أحضر خروفاً وذبحه أمام ضريحها، ووزعه لأن زوجته حملت إثر زيارتها للمومياء بعد عقم طال خمسة عشر عاماً».

ولكن هل كل ذلك صحيحا؟!

سألنا الدكتور على مصطفى البكرى، مدير عام آثار المنيا الشمالية، فقال: اعتقادات ساذجة. وعن إيزادورا قال: اسمها مصرى خالص، ويعنى بالهيروغليفية «هبة الإلهة إيزيس» رغم أنها عاشت فى العصر الرومانى، وكان أبوها حاكم الإقليم الخامس عشر فى المنيا، ومقره شرق النيل، وكانت مخطوبة لشاب إغريقى يعيش فى البر الغربى، فكانت إيزادورا تعبر إليه النيل فى قاربها الخشبى الصغير لتلقاه، ويوم غرقها كان حبيبها «حابى» ينتظرها على الشاطئ الغربى، وبينما هى فى القارب امتد بصرها إليه فهامت به وانصرفت عن التجديف فاختل توازنها وانقلب بها القارب ولم يستطع حبيبها الذى ألقى بنفسه فى النيل إنقاذها، هذا هو ما قالته المرثية التى سجلها لها والدها على جدار المقبرة، أو البيت الجنائزى الذى حفظ فيه جثمانها بعد تحنيطه ضمن أكثر من 45 قبرا أقيمت فى نفس المنطقة وأطلق عليها «بيوت جنائزية».

يضيف الدكتور على البكرى: لأن الذين دفنوا كلهم من الشباب – النبلاء – أراد أهلهم عدهم من الأحياء بينهم، فشيدوا لهم هذه المقابر على طراز منازل الأحياء المنتشرة – نموذج مقابر كوم الدكة فى الإسكندرية – وكانوا يزورونهم ويمضون ساعات فى رحابهم، يأكلون ويشربون ويؤدون صلوات الرحمة عليهم، ويمارسون عاداتهم اليومية.


استراحة الدكتور طه حسين


وهذه البيوت الجنائزية أُقيمت على شكل معابد يتكون مخططها بشكل عام من صالة أمامية يليها الهيكل ويتقدمها المذبح، وهى النموذج الوحيد الذى شيدت فيه مقابر على شكل معابد، ولم يعرف هذا الطراز فى مصر فى مكان آخر غير «تونا»، وإن كان موجودا فى منطقة قورينا الأثرية فى ليبيا، وتتميز بعناصر معمارية متأثرة بالعمارة الجنائزية فيها.

ومن أهم هذه المعابد معبد «بتوزيرس» (كاهن تحوت)، ومعبد «أوزير دور» ومعبد «الباديكام»، ولهذه المقابر صالة أمامية وحجرة للدفن تضم السرير الجنائزى، وهو الذى كانت ترقد عليه «إيزادورا»، وأهم ما يميز بيت «إيزادورا» الجنائزى أن الباب الداخلى المؤدى من الصالة الجنائزية إلى حجرة الدفن من نقش الفنان القديم وعلى جانبيه مرثيتان طويلتان باللغة اليونانية، لم نر مثله قبل هذا العصر فى أى من المبانى الجنائزية.

وقد رجح عالم الآثار الدكتور عزت قادوس أن الذى شيده هو أحد الفنانين الأجانب الذين تمصروا فمزجوا فنونهم المعمارية مع الفن المصرى والطقوس الجنائزية والمعتقدات المصرية.

حارساها الطيبان عبد الباقى عبد الجيد محمد، ومحمد إبراهيم جامع يؤكدان انتباههما للحراسة، وأن نوباتهما منضبطة، وقد استقرت الأحوال وإن ظلت حركة السياحة شبه منعدمة، وكانت قبل 25 يناير ضعيفة نتيجة الأعمال الإرهابية، ويقترحان تشجيع سياحة المدارس والجامعات، وإقامة استراحات وبازارات وكافيتريات، لأن المكان منعدم الخدمات، وهو اقتراح جيد، فالسائح لا يجد شربة ماء أو بعض المأكولات، وعمرو غلاب رئيس اللجنة الاقتصادية فى مجلس النواب (نائب ملوي) يقترح السماح بإنشاء موتيل صغير ووضع برامج لسياحة السفارى ربطاً بالسياحة الأثرية بالقرب من المنطقة الأثرية فى صحراء غرب المنيا لتوفير فرص عمل لبدو القرى الغربية الذين يمكنهم تنظيم ليال سياحية فى الصحراء وتقديم فنونهم الشعبية وإمتاع السائحين بأكلاتهم، مثل نجع العجولة، ودرده، والطرايد، والنزيز، ولهم فلكلورهم وطريقة حياة تستهوى قطاعا كبيرا من السياح.

سألت أحد هؤلاء البدو مازحا: أمازلتم لا تزوجون بناتكم للصعايدة؟ فقال ضاحكا، ادى بنتك لتمساح ولا تديهاش لفلاح، ثم ابتسم ، وأضاف: اتنازلنا شوية .. دلوقتى بندى البنات للفلاحين ، واحنا كمان بدأنا نشتغل فلاحين، زمان كنا نعيش على الرعى وصيد الغزلان ونقضى أمسياتنا فى الغناء، مثل أغانى الهرابة .. سلوى الهاربين إلى ليبيا عبر دروب الصحراء وغيرها .. الأفراح لدينا تختلف عن أفراح الصعايدة، وأهم غنائها السامر: على دق الكف. ومن أمثالهم حالى حاك الديك عالجبل .. أو حالى كيف عين الديك رايق .. حالى حال الهانة (الإهانة)، حال الراقد فى الجبانة. ونستطيع أن نقدم ثقافتنا وفلكلورنا الشعبى فى أمسيات رائعة بالقرب من إيزادورا.

وتبقى مومياء «إيزادورا» النحيلة ذات السبعة عشر عاماً مع حكايتها مزاراً للعشاق والسياح فى تونا الجبل.

فى نهاية الرحلة مررنا بدوار عمدة «تونا الجبل» المهندس عبد الحميد على إبراهيم بصحبة المصور العالمى المصرى عماد عمر.

يقول الدكتور معمر رتيب محمد أستاذ القانون الدولى العام بحقوق أسيوط، وأحد أبناء «تونا الجبل»، تتكون تونا الجبل من عدة عائلات كبيرة هى الندوية، والهمامية، وأولاد الشيخ، والشعراء، والدكورة، والعوامر، والفقايرة، والعبادنة، والرئادنة، والهراينة، ويبلغ تعداد القرية نحو 25 ألف نسمة، وتنتشر بيوتها على مساحة 200 فدان تقريبا، وهو ما يمثل أربعة أضعاف ما كانت عليه مساحتها قبل ثلاثين عاماً، ولأنها كانت فى العهود القديمة مدينة الموتى، فقد ظلت مقابرها تحتل مساحة تعادل تقريبا نفس مساحة العمران فيها.

تتبع «تونا الجبل» مركز ملوى، الذى يبعد عن المنيا عاصمة المحافظة 40 كيلومترا، ويمكن الوصول إليها عبر القطار أو عبر الطريق الصحراوى الشرقى الجديد الذى يبدأ من حلوان، أما أسهل طرق الوصول إليها فهو «أسيوط الغربى» (300كم جنوب القاهرة)، فيمكن للمسافر من القاهرة أن يصل إليها مباشرة دون المرور على أى مدينة، حيث يربط تونا الجبل به 17 كم.

قال د. معمر: «إيزادورا» خدمت بلدنا بقيام الحكومة بتعبيد الطريق إليها، وهو يمر بقريتنا فسهلت لنا الوصول إلى «وش الدنيا»، وإن أضرت بالتوسع المأمول فى الزراعة، حيث ضمت الآثار إليها ما يقرب من ثلاثة آلاف فدان قابلة للزراعة، فى حين أن المياه الجوفية قريبة من سطح الأرض على أعماق لا تزيد على ثلاثين متراً.فى الطريق إلى «إيزادورا» مساحة كبيرة لمقابر حديثة تصاحب مساحتها امتدادا إلى «الضريح» وتبلغ مائتى فدان تقريبا، تماثل مساحة العمران والبيوت فى القرية، ربما لأنها تخدم قرى أخرى مجاورة، وربما لأن «تونا الجبل» نفسها كانت فى العصرين الفرعونى والرومانى مدينة الموتى يدفن فيها موتى مدينة الأشمونيين، فكانت مدينة الأحياء، وتقع شرق النيل. ويقال إن بينهما سردابا يمتد لأكثر من خمسة عشر كيلومتراً .

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق