رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حوار مع ميت؟

شبكة القنوات الفضائية الخاصة الساعية لاستعادة انتشار فقدته، تُقرر أن تبدأ حملة إعلانية موسعة، معتمدة على (سبقٍ إعلاميٍ غير مسبوق) يكون عنوانا لبرنامجها الرئيسى!، تتوالى اجتماعات فرق الإعداد للتجهيز واستعراض الأفكار ودعمها بالوثائق، وتحديد الكلفة المالية اللازمة، كل فرق الإعداد يتنافسون على تصدر مشهد (السبق غير المسبوق)، حتى يثبتوا جدارة وولاء، يؤهلان لرضا إدارة القناة، الذي تُتَرجِمهُ عبر صرف أجور انقطعت خلال شهور عِجاف وَلَّتْ!.

حين تصل أفكار فِرَق الإعداد إلى (إدارة الشبكة)، تتجه الأنظار إلى ملف يحمل عنوان (حوار مع جثة)، وهي الفكرة التي يستعرضها الملف بإيجازٍ في صدر صفحاته، مؤكداً أن الهدف هو فضح (مافيا التجارة بالأعضاء)، من خلال تسليط الضوء على حياة أحد ضحايا هذه التجارة المحرمة، والذي تم التعرف على بقايا جثته بعد اختفائها بفترة، بينما اكتشف أهل الضحية غياب معظم أعضائه الداخلية وبعض الخارجية، ويبدأ البرنامج من أسئلة محددة يطرحها مذيع البرنامج، وحيث إن الضحية كان من هواة التصوير، فإن إجابات الأسئلة تتمثل في مقاطع فيديو صورها الضحية لنفسه، وتحمل رؤاه وأفكاره حول حياته و آماله وخططه المستقبلية، ثم ينطلق البرنامج إلى رحلة البحث عنه بعدما فُقِد، ما بين المستشفيات وأقسام الشرطة والمشارح وصولا إلى (فتح المندل و قراءة الطالع)، وهي محطات طالما كان للضحية تعليقاته على سلبياتها وآثار هذه السلبيات على علاقة الجمهور بها وانعكاسات ذلك على علاقة الجمهور بوطنه، وأخيرا يختتم البرنامج فقراته بلقاءات مع أهالي الضحية -الجثة- ليعبروا عن مدى الفزع الذي سببه الحادث، والدروس التي استفادوها منه، والأبعاد الإنسانية التي تستوجب تنبه الجميع لمواجهة (مافيا الاتجار في الأعضاء). ينتفض مدير الشبكة الفضائية من على كرسيه، يصفق بيديه فيتبعه الحضور تصفيقاً بينما تعلو يدا المدير بملف الفكرة ويهتف (هيا دي الأفكار اللي تعلم) ثم يجلس متنفسا الصعداء فيتبعه الجميع جلوسا، ينظر إلى الملف فيما يده اليمنى تفتش عن القلم في جيب (الجاكيت السينييه)، تلمع عيناه بنظرة الإبداع الإعلامي يرمي بها إلى وجوه الحضور فتتهلل، يشطب عنوان الملف ويكتب بخطه الذي يُلغِزُهْ انتسابه لنقش الفراخ، وببعض تدقيق يَقرأ الجميع (حوار مع ميت)، ويصفق الحضور لهذه الإضافة التي أثرَت العنوان وأعطته أبعاداً وإدهاشا وإنعاشا وأوصافا أخرى كثيرة تنتهي جميعها بالتنوين!

لا تتوقف أفكار مدير الشبكة الجديد عن الانهمار إبداعا إعلاميا يعيد صياغة نظريات الإعلام القديمة والحديثة وما بينهما على حد وصف أحد مديري فرق الإعداد الواعدين، فيبدأ في إعادة صياغة محاور الفقرات الثلاث ليكون الحوار مع جثة لرجل زاهد في الدنيا وصاحب بركات وله تسجيلات لدروس ومواعظ، وليكون الجزء الأول حول الزهد في الدنيا ومتاعها، وعدم الاغترار بفتنها من مأكل ومشرب وملبس، وضرورة الصبر على بلائها ووجوب طاعة كل أولي الأمر فيها، أما الجزء الثاني فسيكون عن عظة الموت وهوان سكراته أمام خلود الآخرة وما تضم من نعيم مقيم أو عذاب أليم، ثم تكون النهاية مع رفاق الميت وأحبابه وأقاربه الذين يروون مشاهداتهم لبركات ساعة الاحتضار، ونوادر السكرات باختصار، وعلامات القبول لحظة الانتقال، ثم ينزل تتر النهاية بينما دموع المذيع تنهمر، وفي الخلفية إحدى أغنيات الفنان مصطفى كامل الحزينة طبعاً! يتبع ذلك السرد تأكيد مدير الشبكة أنه شخصيا يعرف بطرقه الخاصة ثلاثا من الشخصيات التي تنطبق عليهم مواصفات الجثة، وجميعهم في أيامهم الأخيرة والأعمار بيدي الله، ويقرر أن يوجه ثلاثة فرق عمل إلى ثلاثة عناوين في محافظات مختلفة ليسجلوا اللحظات الأخيرة قبل أن يحمل عزرائيل الروح إلى باريها.! ومن فورهم تتكاثف جهود فرق العمل والتسويق لإنتاج ونشر (برومو) الحلقة الأولى من برنامج الشبكة الرئيسى والذي ينفرد بأول (حوار مع ميت). وبينما انشغل الجمهور العريض بمتابعة الحوار مع الميت، كان الموت يتحرك حرا طليقا، ينشر نداءاته عبر حناجر تجارة الأعضاء والأفكار والفتاوى والتنظيمات والمحسوبيات، يتحرك ليخنق كل وعيٍ يقاوم وليحارب كل أمل يلوح، وليجتث كل بادرة لحياة، بينما في الخلفية رؤوس مشدوهة إلى الشاشات وأصوات الزاهد الراحل تنبعث منه تؤكد أن الله خلقنا لنعود إلى رحابه بالموت، ودموع المذيع تنهمر، وصوت الفنان مصطفى كامل يشدو (في وسط الدنيا الخاينة)! خلف كل الجموع، وفي ركن منزوٍ بالحارة القديمة يجلس (أيوب المصري)، يمص عود قصب وهو يتطلع إلى الجماهير المشدوهة، يقضم قطعة كبيرة من العُقلة، بينما ينبعث تجشؤه مزلزلا فيهتف (صحة يا أيوب وانتباه يا مصر، مافيش ميت بيتكلم). تبقى ملاحظة لازمة، أي تشابه بين حوار الميت وأي حوار مع إرهابي فهو ليس من باب (التحوير على حد)!.


لمزيد من مقالات ◀ عبد الجليل الشرنوبى

رابط دائم: