نواصل اليوم، بعد انقطاع فرضته سخونة الأحداث فى الإقليم، ما كنا قد بدأناه من تأمل لحركة الإصلاح الديني، التى مرت عليها خمسة قرون، فى مناسبة نادرة احتفت بها الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة يوم السبت الماضي، وهنا نتوقف خصوصا عند المغزى من التصالح لهذه الحركة مع روح العصر الحديث وبنية النظام الرأسمالي.
كان السيد المسيح قد ألهم أتباعه وحوارييه مفهوما عن دين روحانى صرف «مجرد» ينبذ أى توجه لتغيير العالم الخارجي، باعتباره نوعا من خداع النفس؛ لأن العالم الحقيقى هو ملكوت السماء، وعلى الإنسان أن يرتقى إليه تاركاً خلفه عالمنا الخاوي، الذى لا سبيل إلى إصلاحه، للشيطان وحده، يهيمن عليه أو حتى يتورط فيه!. إذ يُروى عن المسيح قوله لشاب أراد عظته: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تشهد الزور. أكرم أباك وأمك، وأحب قريبك كنفسك.. فقال له الشاب: هذه كلها حفظتها منذ حداثتى فماذا يعوزنى بعد ذلك. فقال له يسوع: «بع أملاكك وأعط ثمنها للفقراء وتعال أتبعني. فلم يقبل الشاب، فقال يسوع: يعسر أن يدخل غنى ملكوت الله.. ولدخول الجمل فى ثقب إبرة أيسر من دخول الأغنياء ملكوت الله». (متي، 19: 18 23). الأمر الذى يبدى المسيحية، وكأنها تحارب العمران وتكره المال. ومن ثم نمت الكنيسة الكاثوليكية فى ظل علاقة مراوغة بين الإنسان كوجود واقعي، تتناوشه الغرائز وتداعبه الطموحات، وتضغط عليه الحاجات، وبين الإنسان كمفهوم مسيحي، مهموم بالمثال، مطالب بالاستغناء. وهكذا ظل المسيحى «المؤمن» يحيا فى عالمين منفصلين.. المثل الأعلى الروحى المنشود، المتناقض مع الواقع، غير المكترث بحركة التاريخ من ناحية. والواقع الدنيوى الصعب، الذى انفلتت فيه الإرادة إلى حد الطغيان، بحجة السيطرة على التاريخ من ناحية أخري. هذان الخطان يسيران فى نفس الاتجاه متجاورين ولكن على غير اتصال، ومن ثم فالمسيحى المؤمن مطالب بالاختيار بين أمرين: فإما امتلاك التاريخ وفقدان الإيمان، وإما تجسيد الإيمان والنفى من التاريخ!.
مع الإصلاح الدينى بدأ نوع من المصالحة بين المسيحية والحياة الدنيوية، عندما أكد المصلح البروتستانتى جون كالفن نوعا من «الزهد النشيط»، يربط بين المسيحية، والواقع الأوروبي. ففى سياق الأخلاق الكالفينية جرى تحطيم المفهوم المراوغ عن الإنسان، ككائن يمزقه التناقض الوجودى بين روحانية نظرية ودنيوية عملية، لصالح مفهوم موضوعى يرى الإنسان كـ «زاهد نشيط»، لديه دوافع إيمانية، روحانية وربانية، للعمل والكفاح والثراء، فالنشاط الدنيوى لم يعد أمرا مؤثما فى ذاته، طالما كانت نيات صاحبه خدمة الله وعباده ضمن الملكوت الدنيوي، كما لم يعد الزهد الدنيوى مطلبا حتميا لتأكيد ولاء المؤمن للملكوت الأخروي، وذلك على المنوال الذى كان قائما فى اليهودية والإسلام، حيث الحافز الدنيوى للنشاط قائم وموفور من دون تعارض «حتمي» مع روحانية الإيمان.
وعلى هذا كانت الكالفينية فى جزء منها تناغما مع مطالب العصر الحديث الذى يعول كثيرا على النشاط الدنيوي، عندما جعلت النجاح المادى أمرا، ليس فقط مشروعا ما دام مؤسسا على الرغبة فى تنمية الثروة مع الزهد فى الاستمتاع بها، بل مرغوبا أيضا كطريق للخلاص الأخروى وعلامة على النجاح فى تحقيقه. وفى الجزء الآخر منها كانت محاولة لصياغة إنسان جديد، أكثر توازنا وتكاملا، له دوره فى صياغة الواقع الدنيوي، وفى حفز حركة التاريخ ولكن دون الوقوع فى أسر المادية المفرطة: إنسان ينطوى على الشعور العميق بالمحبة والإيمان ولكنه دائم التطلع إلى بلوغ المعرفة وتنمية الثروة. إنسان لا يطمح إلى روحانية الزاهد، ولكنه لا ينفلت من الجوهر الأخلاقى للمسيحية، نعم لديه دوافع العمل والرغبة فى الكفاح، ولكن من دون أن تورطه تلك الدوافع والرغبات فى نزعات لاكتناز الثروة أو التسلط على الآخرين.
وقد ذهب ماكس فيبر بهذه الصيغة إلى مداها، مجسدا تغلغل النظرة التنويرية المتفائلة فى المسيحية، وذلك فى أطروحته الكلاسيكية «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» التى مزجت بين المسيحية والرأسمالية مزجا خلاقا، وأعادت اكتشاف الطهرانية الكالفينية، باعتبارها الفكرة التى صاغت عقلية الربح والفائدة، كخاصيات أساسية للرأسمالية الحديثة. وهكذا استخلص فيبر فى بداية القرن العشرين فهما جديدا للروح البروتستانتية، جوهره أن على المسيحى المخلص أن يتبع النداء الداخلى بالاستفادة من الفرصة التى منحها الله له، فإذا أراه الله طريقا يستطيع أن يحصل منه قانونيا على أكثر مما يحصل عليه من طريق آخر، من دون أن يظلم روحه أو أى روح أخري، ورفض ذلك واختار الطريق الأقل ربحا، فإنه يعارض واحدا من أهداف عمله ويرفض أن يكون خليفة الله فى الأرض، إذ يرفض قبول عطاياه واستخدامها من أجله عندما يطلب ذلك، إذ يتعين عليه أن يكدح ليكون غنيا من أجل الله، وليس من أجل متعة الجسد أو الملذات الآثمة.
وهنا أكد فيبر نوعا من النفعية الاقتصادية «الحكيمة» كقبول الاقتراض بالفائدة، والتأكيد على المقولة الأساسية بشأن «المسيحى النشيط» الخادم لله ولإخوانه بفضل نشاطه، استنادا إلى رفض كالفن الصارم لذلك التصور الأسطورى التقليدى عن دائن واسع الثروة ومدين بائس، وإلى أنه لا يمقت مبدأ البحث عن الربح، إذا ظل ربح هذا الإنسان المسيحي، الموجود بفضل العناية الإلهية، غير مضر للآخرين. فالثروة إذن، وحسب الأخلاق البروتستانتية الجديدة، سيئة فقط لو كانت إغراء بالكسل والتمتع بالحياة الآثمة، واكتسابها سيئ عندما يكون بهدف العيش فيما بعد فى اللهو واللامبالاة، ولكنها عندما تكون أداء لواجب فى العمل، لا تكون فقط مقبولة أخلاقيا بل مفروضة فعليا. وقد أدى هذا النوع من التفكير إلى عقلنة الحياة الاقتصادية، فاتخذ الزمن أو الوقت دلالة جديدة معادلة للقيمة والمال، ولم يعد التاجر الناجح هو حتما مسيحيا ماكرا، بل صار مسيحيا نشيطا، وهو الإدراك الذى بات محبذا لدى البرجوازيين المتدينين، أو غير المعادين للإيمان على الأقل، بديلا عن الكهنوت الكاثوليكى المضنى للعقل، أو التأمل الشارد فى الملكوت الإلهي. وهكذا قدم فيبر، تأسيسا على عمل كالفن، حلا ناجزا لمعضلة العلاقة بين المسيحى والحرية، بين الإيمان والحداثة، بين الروحانية الدينية والإيجابية التاريخية، فلم يعد المسيحى زاهدا وعاجزا بالضرورة، بل نشيطا وحرا أيضا، الأمر الذى مكن الوعى الأوروبى من تجاوز مأزقه التاريخي.
[email protected]لمزيد من مقالات ◀ صلاح سالم رابط دائم: