رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حتى لا نحرث فى البحر

الحرث فى البحر هو تعبير مجازى عن جهود كبيرة حقاً لكنها لا تؤتى ثمارها. وما نتمناه اليوم ألا تكون محاولات الإصلاح التعليمى مع كل تقديرنا لها ـ ومؤازرتنا للقائمين عليها أشبه بالحرث فى البحر. ابتداء الاعتراف واجب بأن هناك حالة استنفار لا تخطئها العين لإصلاح التعليم. ولدينا اليوم وزيرٌ للتربية والتعليم كفء ونشيط وهو رجل تكنوقراط بالأساس، وهذا ما كنا نفتقده فيما مضي. لكن ثمة اعترافا آخر موازيا لا يُجدى إنكاره وهو أن سرطان الدروس الخصوصية مازال يسرح ويمرح فى خلايا الجسد التعليمي، بل انه عرف طريقه أيضاً إلى تلاميذ المدارس الخاصة ذات المصروفات الباهظة (وهذا بذاته لغزٌ آخر فى المسألة التعليمية). وبدون القضاء على الدروس الخصوصية سنبقى كمن يحرث فى البحر، لأنها تحول ببساطة دون أن تستعيد مؤسسة المدرسة أدوارها المعرفية والتربوية والوطنية التى تآكلت إلى درجة مقلقة بسبب الدروس الخصوصية. نعرف بالطبع أن هناك مجتمعات غيرنا تعرف ظاهرة الدروس الخصوصية، وقد أصدر معهد التخطيط التربوى التابع لليونسكو كتاباً مهماً منذ سنوات عن هذه الظاهرة التى سماها تعليم الظل. لكن يظل الفارق الكبير بين مصر وغيرها من المجتمعات أن تفاقم ظاهرة الدروس الخصوصة لدينا يبدو مقترناً (كسبب ونتيجة معاً) بتراجع مروّع لدور المدرسة إلى حد صيرورتها هى نفسها التعليم الظل والصورى فى مقابل التعليم الفعلى الذى يتم فى (أوكار) الدروس الخصوصية.

ندرك بالطبع أن القضاء على الدروس الخصوصية لن يتم بين يوم وليلة، وبالتالى فالأمر ما زال يتطلب عدة سنوات ريثما يُسهم تطوير المناهج والمقررات وتحديث نظم التقويم والامتحانات فى تقليل الطلب على الدروس الخصوصية، وإن كان علينا ألا نستبعد أن (مافيا) الدروس الخصوصية ربما تُعيد تدوير نفسها وتقوم بتطوير مماثل فى أدواتها. على أى حال، وأياً كان اختلافنا حول الإصلاح التعليمى فإن المؤشر الأهم والأصدق للحكم على جدية ومسار الإصلاح التعليمى هو ما أعلنه وزير التربية والتعليم من أن الامتحانات ستجرى عما قريب بنظام أون لاين. لو تحقق هذا فهو يعنى ثورة تعليمية ستضع حداً لكل ترهل وفساد وألغاز نظامنا التعليمي، وهو ما سيعنى أيضاً أن قطار الإصلاح التعليمى فى مصر قد انطلق بالفعل وأنه يمضى على طريقه الصحيح.

لكن فى غمار انشغالنا بتفصيلات الإصلاح التعليمى يجب ألا تغيب عنا الرؤية الشاملة للمشهد. جزء من معضلة الإصلاح التعليمى الشامل فى مصر أنه يصعب فصل إصلاح نظام التعليم قبل الجامعى عن إصلاح التعليم الجامعى ليس فقط لأن الأول هو المدخل للثانى ولكن أيضاً لأن كليهما يعانى من نفس إشكاليات الكم والنوعية. أبرز هذه الإشكاليات وأكثرها تعقيداً هو صعوبة إحداث التطوير المطلوب فى التعليم الجامعى فى ظل الأعداد الهائلة التى تلتحق بمؤسسات جامعية لا يمكن لها أن تقدم تعليماً بمواصفات جيدة لكل هذه الأعداد ولا حتى لنصفها. فالمعضلة هنا تبدو مزدوجة ذات وجهين. وجهها الأول أن السياسة الحالية للالتحاق بالجامعات عاجزة عن التوفيق بين الطلب على التعليم الجامعى ومتطلبات الحد الأدنى من الجودة التعليمية، ووجهها الثانى أن العملية التعليمية التى تتم فى جامعاتنا عاجزة بدورها عن التوفيق بين مواصفات خريجى الجامعات ومتطلبات سوق العمل. نعم رأينا فى منتدى الشباب بشرم الشيخ شباباً واعداً وموهوباً ومتسلحاً بتكنولوجيا العصر لكن كم من جزء من المائة فى المائة يمثل هؤلاء من مجموع الشباب المصري؟

لو بدأنا بالوجه الأول للمعضلة فحاصلها أن لدينا على أرض الواقع جامعات لا تتيح عملية تعليمية جيدة لهذه الجحافل من الطلاب. والعملية التعليمية هى وصف يشمل عناصر شتى من الأبنية، والمدرجات والقاعات، والمختبرات، وأدوات وتقنيات التدريس، وطواقم إدارية مساعدة مؤهلة وكفؤة، ثم وهذا هو الأكثر أهمية أعداد كافية من هيئات التدريس لا يتوزع جهدها ووقتها على التدريس فى أكثر من جامعة سعياً وراء لقمة العيش. وصل الأمر إلى حد أن هناك كليات حقوق عريقة اضطرت إلى إلغاء نظام الامتحانات الشفهية لطلاب الدراسات العليا رغم أهميته الكبيرة تحت وطأة تضخم أعداد الطلاب التى تجاوزت الالف طالب فى دبلوم واحد، وفى جامعات أخرى يناهز العدد الألفى طالب. يصعب والحال كذلك تصور قيام أى حركة بحث علمى جاد بأى معيار من المعايير إذا كان مطلوباً الإشراف على ألف أو ألفى بحث علمى وتقييمها فى غضون فصل دراسى واحد. ليعذرنى الجميع إذا قلت إننا هنا نمارس الهزل العلمى وليس البحث العلمى فى الجامعات.

السؤال الذى لا ينبغى تجاهله هو ولماذا تُقْدم الجامعات على قبول هذه الأعداد الهائلة من الطلاب إذا كانت تفتقر إلى البنية والإمكانات والوقت وأعداد هيئات التدريس اللازمة لتحقيق الحد الأدنى من عملية تعليمية جيدة ؟ هنا تتعّدد الإجابات. يرى البعض أننا نحتاج إلى زيادة الموارد المالية التى يتأتى جزء كبير منها من رسوم التسجيل فى الدراسات العليا.ويرى البعض الآخر أن الحق الدستورى فى التعليم يحول دون حرمان طالب من اختيار الدراسة التى يرغب فيها. ويعتقد آخرون أن الحد من أعداد الطلاب الملتحقين بالجامعات قد ينطوى على مخاوف سياسية أو اجتماعية. ويرى بعض رابع أنه لا بد أولاً من توفير مسارات تعليمية ومهنية بديلة لتصريف هذا الفائض السكانى وتوظيف قدراته قبل ترشيد نظام القبول بالجامعات. كل هذه الإجابات باستثناء الإجابة الأولى تستحق التأمل وتحتاج إلى نقاش.

المسئولية عما آل إليه التعليم الجامعى لا تقتصر فقط على عاتق القائمين على أمر هذا التعليم لكنها تشمل أيضاً المجتمع والطلاب. ثمة خلل واضح على سبيل المثال فى اختيارات الطلاب المصريين لنوع التخصص العلمي. تثبت الأرقام الرسمية المتاحة أن ما يناهز الـ 80% من أعداد طلابنا تُقبل على الدراسات الإنسانية والأدبية مقابل نحو 20% فقط يختارون دراسة العلوم الطبيعية والحقّة. هذا التفاوت الكبير ملحوظ سواء على مستوى التخصص فى الثانوية العامة أو فى التعليم الجامعي. كان من الطبيعى أن يترتب على ذلك أن يتجاوز عدد الطلاب فى كلية واحدة للحقوق أو التجارة مثلاً الثلاثين ألف طالب فى حين أن عدد الطلاب فى جامعة هارفارد بكل كلياتها مجتمعةً لا تتجاوز العشرة آلاف طالب. كليات العلوم الطبيعية مثل الطب والصيدلة والهندسة تعانى من ظاهرة التضخم ذاتها وإن بدرجات متفاوتة، وهذا ما تقوله نقابات الأطباء والمهندسين والصيادلة نفسها.

خلاصة الأمر أنه ما لم يتم تحديث نظام القبول فى الجامعات فإن الحديث عن أى تطوير فى المناهج والمقررات وطرق التدريس، وبرغم أى جهد كبير يُبذل فيه، سيبدو كالحرث فى البحر.


لمزيد من مقالات د‏.‏ سليمان عبد المنعم;

رابط دائم: