مع مرور مائة عام على الثورة الاشتراكية الروسية، وللتعلم الإيجابى من التاريخ، تتسم بالأهمية قراءة إنجازات الاتحاد السوفيتى فى عقود صعوده، لأتناول فى مقال آخر أبرز إخفاقاته، التى قادت لركوده ثم سقوطه. وأوجز فأقول: إن الاتحاد السوفيتى استهدف إنجاز التصنيع فى 10- 15 سنة بدلا من 50- 100 سنة فى الدول الرأسمالية الصناعية، ونجح فى هذا وإن بتكلفة إنسانية باهظة، خاصة لغالبية سكان روسيا من الفلاحين. واستهدف التصنيع الاشتراكى تحقيق الاكتفاء الذاتى فى انتاج الآلات لإعادة البناء التكنولوجى للصناعة والاقتصاد على أسس وطنية، فبدأ بمنح الأسبقية للاستثمار فى الصناعات الثقيلة، وتأسيس صناعة بناء الآلات.
وأسجل أولا، أن التصنيع الاشتراكى قد ارتكز الى تعظيم القدرات الذاتية وسيطرة قطاع الدولة عبر التأميم، وزيادة معدلات التراكم فى الأصول الثابتة الجديدة مقارنة بمعدلات إهلاكها، وتعظيم ربحية الصناعة، وربط السياسات الاقتصادية بما يحقق أهداف التصنيع. وفى فترة الانتقال بدأت سيطرة القطاع العام الصناعي، حيث مثلت المصانع الحكومية 68 % مقابل 24 % للورش الحرفية و 5% للتعاونيات الصناعية، و 3 % للمصانع الرأسمالية الخاصة فى عام 1924 / 1925. وانطلق التصنيع من بدايات منح الأسبقية للاستثمار فى إنتاج وسائل الإنتاج، حيث بلغ نصيب فروعها 43.4% من الناتج الصناعى فى عام 1925. وقرر المؤتمر 14 للحزب الشيوعى السوفيتى تأميم وسائل الإنتاج الرئيسية، واحتكار الدولة للتجارة الخارجية، وتصفية القطاع الخاص، وانتهاج التخطيط الاقتصادى المركزى بدءا من الخطة الخمسية الأولى (1928-1932). وواجه تنفيذ الخطة مشكلات أهمها التمويل، حيث افتقد الاتحاد السوفيتى مصادر هامة للتراكم فى الدول الرأسمالية مثل نهب المستعمرات، وتشديد استغلال الطبقة العاملة الصناعية.
وثانيا، أن قطاع الدولة كان المصدر الأساسى لتمويل التراكم بمعدلات استثنائية عالية؛ باتباع نظام صارم لتحقيق القطاع العام أقصى إنتاج وربح ممكن، وسياسة توفير شديدة القسوة والصرامة فى استخدام الموارد المادية والوسائل النقدية المتاحة، مع تقليص نفقات الجهاز الإدارى للدولة، واستخدام السياسة الضريبية لصالح التصنيع، واتجهت ضد أغنياء الفلاحين وصغار ومتوسطى الرأسماليين. وتم توجيه 90% من التراكم الداخلى للصناعة لتلبية احتياجات التصنيع. وخلال الفترة 1925/1926- 1927/1928 أنفق على الصناعات الثقيلة حوالى 75 % من الاستثمارات المخططة لتطوير الصناعة، مع التركيز على الفروع التى تعزز الاستقلال الاقتصادي، مثل صناعة المعادن السوداء وصناعة الآلات والمحطات الكهربائية. وارتفعت إنتاجية العمل مع ميكنة العمل ومضاعفة استخدام الطاقة وتحسين تنظيم الإنتاج، وارتفع الوزن النسبى للصناعة فى الناتج المحلى الإجمالى من 34% عام 1925 إلى 48% فى عام 1927 / 1928، وزاد إنتاج الصناعات التى توفر سلع الاستهلاك الجماهيرى مثل النسيج والصابون.
وثالثا، أن الدولة وضعت خططا سنوية سميت بأرقام الرقابة فى عامى 1927 و1928، ومع نمو حجم النشاط الاقتصادى والبناء الصناعى الضخم، قررت الانتقال إلى الخطط بعيدة المدى ضمانا للتطور المخطط لمختلف فروع الاقتصاد والمناطق الاقتصادية. وفى عام 1932 تضاعف حجم الناتج الصناعى 2.8 مرة، وخاصة ناتج الصناعات الثقيلة التى خصصت لها الدولة نحو 86 % من اجمالى الاستثمار الصناعي. وتغير هيكل الإنتاج الصناعي، وظهرت فروع صناعية جديدة مثل الماكينات والجرارات والسيارات والكيمائية التى نمت بمعدلات مرتفعة للغاية، وغطى الاتحاد السوفيتى 85% من احتياجاته. وتضاعف الناتج الإجمالى لصناعة بناء الآلات أكثر من 4.5 مرة، ومثلت 20.7% من إجمالى ناتج الصناعات الكبيرة، فأمكن تقليص استيرادها، وتم تجديد حوالى نصف إجمالى الماكينات. ومع المسوح الجيولوجية الواسعة شغل الاتحاد السوفيتى المرتبة الأولى فى العالم من حيث احتياطيات المواد الخام، وبنيت المصانع قرب مصادر الخامات والوقود والطاقة الكهربية، فظهرت مراكز صناعية جديدة. ورابعا، أنه فى الزراعة، على نقيض الصناعة، ورغم زيادة المساحة المنزرعة والتوسع فى زراعة الحبوب والمحاصيل اللازمة للصناعة وزيادة مساحة انتاج الخضراوات والأعلاف، فإن الإنتاج الزراعى لم يكن كافياً لسد حاجات الصناعة النامية وسكان المدن المتزايدين، وظهر ميلان خطران، انخفاض معدل نمو الناتج الزراعى وانخفاض إنتاج الحبوب المبيعة كسلعة. وبجانب تخلف الزراعة، التى كانت ثلاثة أرباع أعمالها يدوية فى عام 1927، أدت سيادة الملكية الصغيرة والمتوسطة إلى أن القسم الأعظم من إنتاج الحبوب صار لدى الفقراء والمتوسطين من الفلاحين، الذين زاد استهلاكهم وانخفض إمدادهم للمدن بالحبوب لضعف إمكاناتهم؛ ومن إمكانيات النمو اللاحق للإنتاج الزراعي. وضاعف سوء محصول عام 1928 من الأوضاع واشتدت المصاعب الغذائية فى روسيا، وبهدف التخريب تهرب أغنياء الفلاحين (الكولاك) من تسليم الحبوب للحكومة، ورفضوا البيع لها بأسعار مرتفعة. وصارت الزراعة قيدا على المعدلات العالية المستهدفة للتصنيع.
وخامسا، أن مرحلة بناء الاشتراكية قد اكتملت بتنفيذ الخطة الخمسية الثانية 1933-1937، التى أُقرها المؤتمر 17 للحزب الشيوعى السوفيتي، وتضمنت مهامها الأساسية: التصفية النهائية للعناصر الرأسمالية، واستكمال بناء الاشتراكية، وجعل الاتحاد السوفيتى مستقلاً عن الاقتصاد الرأسمالى العالمي، مع تقوية القدرة الدفاعية السوفيتية. وفى سنوات الخطة الثانية، مقارنة بالأولي، زادت الاستثمارات فى الصناعة 2.6 مرة، ووجه 83% منها للصناعات الثقيلة، وتضاعف إنتاج الماكينات 3.3 مرة، وغطى الإعداد المهنى التكنيكى الأحدث 4.2 مليون عامل فى الصناعة الثقيلة. كما تضاعف انتاج الطاقة الكهربية 3 مرات، وتم تجاوز حجم الشحن بالسكك الحديدية هدف الخطة بمرتين. وارتفعت انتاجية العمل بنسبة 82% بدلاً من نسبة 63% المخططة، ونما الناتج سنوياً بنسبة 17.1% بدلاً من 16.5% المخططة. وتضاعف الناتج الصناعى 2.2 مرة ونما إنتاج وسائل الإنتاج 2.4 مرة، ونما إنتاج السلع الاستهلاكية مرتين، وزاد نصيب إنتاج وسائل الإنتاج من 33.3% الى 57.8% من الناتج الصناعى الإجمالي. وتحول الاتحاد السوفيتى من دولة زراعية متخلفة إلى صناعية، وأصبح الأول فى أوروبا والثانى فى العالم من حيث حجم الإنتاج الصناعي.
لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم; رابط دائم: