منذ قرن من الزمان وبالتحديد يوم ٢٥ أكتوبر عام ١٩١٧ أطلقت المدمرة « اورورا» من أسطول بحر البلطيق بناء على إشارة من قلعة بيتروبول فى «بتروجراد ليننجراد» بعد ذلك طلقة فى اتجاه القصر وكانت هذه الطلقة إيذانا باكتساح الجماهير الروسية لتسقط القيصرية ويسقط نيكولا الثانى .
...................................
وهى ايضا كانت إيذانا بمولود جديد يأتى بعد ٥ سنوات من الثورة اسمه «الاتحاد السوڤيتى» ..، حيث تم اعلان الاتحاد فى ١٩٢٢ فى مؤتمر المندوبين وضم الاتحاد ١٥ دولة ،و تفكك فى ٢٦ ديسمبر ١٩٩١ فتأتى احتفالية المئوية لثورة ١٩١٧ ولم توجد روسيا «القيصرية» ولا «السوڤيتية» ، ذلك المولود الذى لم يستطع أن يعيش .. بل نجد أنفسنا اليوم امام دولة تحتفل فى صمت وعلى استحياء .. بل أن الكرملين اليوم يخاف من أى تغيير يأتى عن طريق الثورة والقوة فقد عبر عن هذا الخوف أحد المسئولين عن إحياء الذكرى المئوية سيرچى ناريشكين مدير الاستخبارات الخارجية ورئيس الجمعية الروسية للتاريخ أن الثورة : «تجلب دائما الدماء والموت والدمار وكوارث» والروس يعرفون «قيمة الاستقرار».
وليس هذا فحسب بل اقتصر برنامج الذكرى المئوية على عدد من المعارض والندوات تم التشديد خلالها على أهمية الوحدة الوطنية مع عدم الخوض فى القضايا الشائكة .
وتعكس اللجنة التى انشئت لتنظيم الاحتفالات حذر بوتين فى هذا المجال. وهى تضم شخصيات مستقلة ووزراء ومسؤولين فى الكنيسة الارثوذكسية، لكن ليس هناك أى عضو فى الحزب الشيوعى الحالى او ممثل للتيار الملكي
فالنظام فى روسيا الآن يركز على أن الدروس التى يجب استخلاصها بالنسبة للكرملين واضحة وهى الوقاية من أى محاولة إحتجاج على السلطة فى الشارع وخصوصا قبل اشهر من الإنتخابات الرئاسية التى ستجرى فى مارس 2018 ولا يشكك أحد فى أن بوتين سيترشح فيها لولاية رابعة.وكان بوتين الذى انتخب رئيسا للمرة الاولى فى عام 2000، أكد ارتياحه لأول تغيير على رأس البلاد «بلا انقلاب وبلا ثورة».
وهذا الجانب بقى من سمات السياسة الدولية للكرملين، من رفضه «الثورتين الملونتين» فى جورجيا واوكرانيا الى حذره من «الربيع العربى» أو دعمه الثابت «لسلطات بشار الأسد» فى دمشق.
ويترجم تخوف السلطات من سيناريو ثورى فى روسيا بمراقبة أكثر تشددا للنشاط السياسى ولتظاهرات المعارضة المحظورة فى معظم الحالات وتفضى إلى اعتقال مئات الناشطين فى اغلب الأحيان.
وتقوم السلطات «بشيطنة» أقل شكل من الإحتجاج، وترى فى كل احتجاج اجتماعى أو سياسى عملا قويا «غير وطنى» مرتبط بدرجة ما بالخارج.
فهذه هى الأجواء والشعور والحالة التى تسود روسيا بعد مرور مائة عام على ثورة احدثت زلزالا تاريخيا .. هو الخوف من الثورة نفسها ورفضها .
فحركة الشعوب وبالأخص تجاه فكرة الثورة لم تكن من فراغ او للنزهة ولكن تأتى نتيجة انسداد فى جميع الشرايين وأن يبلغ الظلم المدى فيتحرك الناس للشارع ليكون خيارهم الأخير وليس الأول ، وذلك بعد نفاد صبرهم فقبل أى ثورة تسبقهااحتجاجات وإرهاصات لاندلاع ثورة ولكن النظم المستبدة والظالمة هى من يصيبها العمى فى الرؤية وفقدان البصيرة فيكون السقوط حتميا، وهذا ما حدث فى روسيا القيصرية.
فقد وقعت فى روسيا القيصرية ثورتان قبل ثورة أكتوبر الأولى فى عام ١٩٠٥ تجمعت آلاف الجماهير وسارت فى شارع «نفسكى» متجهة إلى القصر يطالبون القيصر بتحسين حياتهم .. فأطلق الحرس القيصرى النار عليهم وهم يتحركون فوق جسر نهر مونيكا .. ثم فى ميدان فرتسفايا وسمى ذلك اليوم يوم الأحد الدامى .
وفى فبراير ١٩١٧ سارت الجماهير مرة ثانية فى شارع « نفسكى» نفسه وقد أنهكتها الحرب العالمية الأولى والنظام القيصرى بدأ يتهاوى ويتفكك فالحياة الاقتصادية تدهورت بشكل كبير وجاع الشعب والجيش معا وأصيب بهزائم متتالية كان أبرزها انسحاب هائل للجيش عام ١٩١٥ على طوال جبهة القتال وكان انسحابا غير منظم ساهم فى دمار الجيش وتحطيم معنوياته .
وأخذت عجلة الثورة تدور والنظام يتهاوى عندما رفض الجنود إطلاق النار على الجماهير التى زحفت فى شارع «نفسكى» فى فبراير ١٩١٧ لم يهدأ الشارع الروسى فتصاعدت الوتيرة ولم ينجح القيصر فى أى تهدئة ، ونجحت الثورة وسقطت القيصرية .. وأعلنت جمهورية روسيا وشكلت حكومة مؤقتة الا ان هذه الحكومة المؤقتة فشلت ولم يكن صعبا على الطبقة العاملة الروسية والفلاحين ان الثورة لم تحقق ما طلبوا، فهى لم تحقق السلام المنشود بل استمر ت الحكومة الجديدة فى الحرب ولم تقم بتوزيع الأراضى على الفلاحين ، بل أن هذه الحكومة بدأت تتعرض للجماهير وتضربها كما كانت تفعل القيصرية كما أن جهاز الأمن نشيط فى تصنيف العمال، وإعادت الحكومة المؤقتة عقوبة الإعدام فى الجيش.
وعمت حالة من الفوضى وتم تكديس الثروات الطائلة وأخلوا المواد الغذائية والوقود وصدروها سرا إلى السويد وعمت المجاعة فى ميدان القتال فى الحرب العالمية الأولى ولم يكن بوسع الجنود ان يستمروا فى الحرب بسبب الجوع والبرد .. ونشطت القوة المضادة لعودة نظام القيصرية.. وشنت الحكومة حربا ضد السوڤيتات وهى تعنى بالعربية المجالس التى كانت تجتمع وتتناقش ايديولوجيا فى جميع المؤسسات المختلفة.
وكان هناك صراع بين المناشفة والبلاشفة .. والمناشفة هم من يمثلون مصالح البورجوازية وتحالفوا مع الحكومة المؤقتة ، وكانوا يَرَوْن أن روسيا لم تكن ناضجة اقتصاديا للقيام بالثورة الإجتماعية ( الاشتراكية ) وأن ما يمكن تحقيقه هو الثورة السياسية ويقصدون فى ذلك الثورة البورجوازية والتى قامت فى فبراير ١٩١٧.
أما البلاشفة بقيادة لينين فقولون على أنفسهم إنهم الممثلون الحقيقيون لمصلحة الطبقة العاملة الصناعية بالذات وأغلبية فقراء الريف وأطلق لينين بعد ذلك على البلاشفة الحزب الشيوعى ، وذلك لأول مرة منذ أن ظهرت النظرية الماركسية وهم من ينادون بالثورة البروليتارية على الفور والاستيلاء على السلطة لتحقيق الاشتراكية عن طريق انتزاع وسائل الإنتاج من الأرض وثروات طبيعية ومصانع ولخص البلاشفة برنامجهم لجذب الجماهير فى ثلاث كلمات « الخبز الارض السلام » ..
وفى اجتماع تاريخى للجنة المركزية للحزب الشيوعى (البلاشفة) فى العاشر من أكتوبر ١٩١٧ اتخذ القرار بالقيام بالثورة وكانوا يسمونها العصيان المسلح وبعد هذا الاجتماع عقد اجتماع موسع حضره نقابات وعدد من المؤسسات من بينها المؤسسة العسكرية قرأ فيها لينين القرار الذى اتخذته اللجنة المركزية وأكد حتمية القيام بثورة .
وقد استهوى الجيش شعار السلام بعد حالة من الهزيمة والجوع ووقف بجانب البروليتاريا وفشلت حكومة كيرنسكى المؤقتة فى مواجهة هذا التطور ..
ونجحت الثورة وأجريت انتخابات لإنشاء الجمعية التأسيسية وقد أعلنت النتائج فى ٣٠ نوفمبر ١٩١٧ وحصل البلاشفة على المركز الأول ثم المناشفة ثم حزب الكاديت ، ثم الاشتراكيون الثوريون ، واليساريون والاشتراكيون الشعبيون ، وشكلت أول حكومة للثورة من الحزب الشيوعى بقيادة لينين والحزب الوحيد الذى تحالف معه وهو حزب الاشتراكيين الثوريين اليساريين ، وأستمر هذا التحالف نحو ستة شهور عكف الاشتراكيون بعدها على مواصلة الثورة الى نهايتها ، ولكن حدث شىء مهم كان بداية لوضع بذرة الانهيار للثورة وللاتحاد السوفيتى وهو أن لينين فض التحالف وانفرد حزبه بالحكم تماما ودخلت البلاد فى عصر شمولى عصر الحزب الواحد.
ومن إرهاصات السقوط أيضا للثورة والاتحاد السوڤيتى.. « التروتسكيون» وهم من يمثلون الجناح المتطرف فى الحزب الشيوعى القائد للنظام كانوا يمثلون الانحراف نحو اليسار وظهر ذلك فى موقفهم من الفلاحين الروس الذين رفضوا أو تلكلأ فى الانضمام للمزارع الجماعية فقد قاموا بالتخلص منهم وتصفيتهم باعتبارهم أعداء للثورة والاشتراكية وساهمت أعمالهم الوحشية فى إشاعة حالة من الخوف وانفضاض الجماهير من حول النظام ..ظهر ذلك فى انضمام ملايين ممن يكرهون النظام الى الجيش الألمانى وغطى النظام السوفيتى هذه الواقعة من خلال أنهم خونة وعملاء بالاضافة إلى انتهاء الحرب بانتصار السوڤيتى فأخفوا ما حدث تماما ولم يعرف بهذه الوقائع إلا بعد فترة
لاشك أن هناك أسبابا كثيرة داخلية وخارجية لا أستطيع حصرها ولكن فى تصورى البسيط أن هناك فرقا بين قوة الدولة وقدرتها. والإتحاد السوڤيتى أهتم بالقوة على حساب القدرة .. القوة العسكرية التى تصور أنها تمكنه من الاستمرار والبقاء ولكن البقاء يحتاج لقدرة.. يحتاج لاقتصاد وتعليم ومجتمع لا يشعر فيه الانسان بالخوف وهذا لم يكن متوافرا فسباق التسلّح والنووى لم يمكنا السوڤيت من البقاء كامبراطورية.
أما نبوءات كارل ماركس وهو صاحب النظرية التى تبناها الاتحاد السوفيتى .. فهى نبوءات لم تتحقق مع الحزب الذى قاد الثورة واعتلى السلطة فى روسيا ولست فى محل نقد نظرية ماركس فى الاقتصاد السياسى فهذا أمر كبير ولكن لم يكن ماركس متوقعا أن تكون بيئة روسيا هى البيئة التى يندلع فيها ثورة بل تنبأ أن تخرج من ألمانيا فروسيا كانت نصف اقطاعية لاتنطبق عليها شروط نظريته .. ومن نبوءاته ايضا أن البلاد التى تسودها الصناعة الكبرى هى اصلح البلاد لسيادة الماركسية ولكن ما حدث أن الماركسية أفشل ما تكون فى هذه البلاد وأنها تسود بمقدار خلو هذه البلاد من الصناعة الكبرى، ثم تتوزع رءوس الأموال بين ملاك الأسهم ولا تنحصر، حتى تجتمع كلها فى أيدى قليل من أصحاب رءوس الأموال.
وفى النهاية هذا جزء من كل ما حدث وهذا بعض من النبوءات، ولكن الحقيقة الواقعة الآن أننا أمام مئوية للسقوط باقتدار للقيصر والسوڤييت فيما بعد و لمعظم ما توقعه ماركس.
رابط دائم: