رئيس مجلس الادارة
عبدالمحسن سلامة
رئيس التحرير
علاء ثابت
ينادى الوطن المجروح ويصرخ، فمن يستجيب لندائه، هو فقط من ينتمى إليه، وأما من يصم الأذن أو يهرب فهو الغريب عنه أو الخائن. كان وطننا مجروحا وأرضنا مغتصبة، فقدم المصريون الحقيقيون حياتهم كى يعيش الوطن حرا، ولكيلا ينزف كرامته أمام شعوب استباحت كرامتنا. وفى تاريخنا فترتان صرخت فيهما أرضنا على المصريين كى يعيدوا كرامتها، واحدة فى تاريخنا القديم حين اغتصب الهكسوس بلادنا واستباحوا كرامة أرضنا، والثانية فى تاريخنا الحديث حين احتل اليهود سيناء وداسوا بأقدامهم على كرامتنا. فكثيرا ما نتغنى بحب الوطن ونكتب قصائد فيه، ولكن يأتى رجال فى صمت يكتبون قصيدة حبهم بالدماء ويموتون وهم يرسمون أيقونة على جدران الوطن بالحب والفداء. وفى بطولات الحروب توجد ملاحم فى حب الوطن تُكتب فى كتب التاريخ وتتغنى بها الأوطان، ولكن داخل هذه البطولات قصص أخرى أكثر عمقا لأنها تحمل حبا خاصا وبطولات خاصة هى الحب والتضحية لأجل أخوتهم المحاربين معهم، دون النظر إلى أى اعتبارات أخرى سوى الحب. فلم ينظر أحد من هؤلاء الأبطال إلى ديانة زميله أو رتبته فقدموا أرواحهم لأجل أخوتهم. ومع علمى ومعرفتى بقصص كثيرة قدم فيها أبطال مسلمون لأجل أخوتهم الأقباط فى الحروب ولكنى سأسرد هنا قصص أقباط قدموا أرواحهم لأجل أخوتهم المسلمين ولأجل الوطن. ومع أنى أشعر بنغمة شاذة وأنا أتكلم عن مسلمين وأقباط فى حب الوطن لأننا جميعا مصريون ونحمى بلادنا دون النظر إلى ديانتنا، ولكن ما أسرده هنا لكى تدرك أنه لم تكن دماء المسلمين والأقباط على أرض مصر مجرد حوادث حرب وقتل، ولكنها كانت ملاحم حب وقبل أن تمتزج الدماء امتزجت الأرواح، وحب الوطن كان يعنى حب هؤلاء لبعض. ومن أكثر القصص التى تأثرت بها قصة الشهيد الطيار بطرس القمص جرجس وقد تزوج وهو شاب، وبعد أربعة أشهر أعلنت حرب 1948 فقال العريس لعروسه: «حبيبتى سأذهب إلى الحرب أقضى على الأعداء وأعود إليك». وذهب إلى الحرب وقاد الطائرة ومعه زميله محمد وآخرون واشتبكوا مع الأعداء وأصاب الهدف ولكن الطائرة أصيبت وسقطت فى خان يونس. وقفز هو من الطائرة فأصيب فى عموده الفقرى بينما كان زميله محمد فى الطائرة وهى تحترق فزحف وهو مصاب وينزف نحو الطائرة فأمسكا به زملاؤه المصابون أيضا وقالوا له: «لا فائدة لقد مات محمد». فقال لهم: «لن أترك جثته تحترق» واحتضن جسد رفيقه وأخرجه زاحفا وحين جاءت العربات لتنقل المصابين إلى مستشفى العريش كان قد نزف كثيرا واستشهد وهو على أبواب المستشفى. سمعت هذه القصة من ابنة الشهيد وهى المهندسة برنادت التى ولدت بعد استشهاده وحين عرفت قصة والدها البطل عاشت هى أيضا بنفس روح أبيها تحمل روحا ثائرة للخير وقالت لي: «تراب بلادى من أبى وأجدادى». وبعد حرب 1967 صدرت الأوامر بخروج زورقين فى مهمة استطلاع أمام شواطئ بورسعيد، الأول بقيادة النقيب عونى عازر والثانى النقيب ممدوح شمس وأثناء المهمة أبلغا بوجود مدمرة ولنشات حربية فى المياه المصرية، فصدرت الأوامر لهما بألا يشتبكا مع الأعداء فقط يستطلعان الأمور، إلا أن الأعداء رصدوا الزورقين المصريين فأطلقوا النار على زورق النقيب ممدوح شمس. وكان المنطقى أن ينسحب الزورق الآخر الذى يقوده عونى عازر ولكنه كعادة الجيش المصرى يصنع ما هو فوق المنطق والمستحيل ويكتب فى التاريخ العسكرى صفحات من نور ودم، فأمر النقيب عونى بتجهيز الصواريخ واستشهد الجندى الذى يطلق الصواريخ فاندفع النقيب عونى بالزورق فى مهمة انتحارية ليصطدم بالمدمرة ويفجرها وسط ذهول الأعداء. وفى 18 أكتوبر عام 1973 كان العدو قد قام بفتح ثغرة وأراد أن يدعم قواته بكميات ضخمة من المعدات والأسلحة وكانت تلك المعدات والأسلحة تقف صفا واحدا استعدادا للعبور وطائراته تحمى تلك القوات البرية. وفى تلك الأحداث وصلت هذه الأخبار إلى الجيش وصدرت الأوامر بالاشتباك مع طائرات العدو، ولكن الطيار ألبير مترى إسكاروس ذهب بمفرده نحو جسر المعدات الزاحفة للثغرة واشتبك معهم بمفرده ونجح فى تدمير عدد كبير من المدرعات والمعدات، ولكن نفدت ذخيرته وكان يمكن أن يعود ولكنه أخذ القرار بالاستشهاد فطار على مسافة مرتفعة جدا وقال لزملائه عبر اللاسلكى لقد حانت اللحظة الحاسمة وانقض بالطائرة على الدبابات الواقفة فدمر عددا كبيرا واستشهد هو. وفى السادس من أكتوبر كان الرائد غريب عبد التواب من أوائل الذين اقتحموا قناة السويس وتسلق الساتر الترابى ورفع العلم المصرى على الضفة الشرقية، وأثناء عمله البطولى إذ بمجموعة من دبابات الأعداء اتجهت نحو الجيش الذى عبر، واشتبكت معهم الصاعقة المصرية بقيادة الرائد غريب عبد التواب واستطاعوا تدمير عدد منها، ولكن اندفعت ثلاث دبابات تجاه البطل غريب فاندفع نحو إحداها وفتح برجها وألقى قنبلة فتحولت الدبابة إلى كتلة من اللهب. فى نفس الوقت كان المجند شنودة راغب يتعامل بالرشاش مع بعض الجنود وحين رأى هذا المشهد البطولى ذهب إلى الدبابة المحترقة وحمل قائده البطل على كتفه وبيده الثانية كان يتعامل مع الجنود الأعداء ولكنهم أمطروه بوابل من الرصاص ليموت الاثنان معا وتخرج من جسديهما دماء تروى أرض الوطن لتتغلل فى تربة أرضنا الطيبة. وحين يمر عابر اليوم لا يستطيع أن يفرق بين دم المسلم والمسيحى الذى سال على هذه الأرض. ويمر التاريخ وتعبر الأيام وتتغير المشاهد، والصحراء تصير مدنا، والأرض الصفراء تصير حقولا، ولكن تبقى حقيقة واحدة تحفظها أرضنا حتى وإن نسيتها الأجيال القادمة أن هذه الأرض دفعنا فيها دماء طاهرة، قدمنا لها حبا باذلا، تعانقنا معا وسرنا جميعا لنحررها من أى عدوان. ففى طبقات الأرض السفلى توجد دماء أقباط ومسلمين تجعل هذه الأرض غنية لا بمعادن ولا بترول ولكن بالدماء والحب. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس