لم تكف أبواق الصيد فى الماء العكر عن التلسين متسائلة : إذا كانت مصر قد نجحت فى إنهاء صراع الأخوة وعقد مصالحة تاريخية بين السلطة الفلسطينية وحماس وهى جناح إخوانى عليه تحفظات كثيرة، فكيف لا تتصالح مع الجماعة الأم وتُنهى صراعا يعوق حركة الدولة المصرية؟
من الوهلة الأولى يبدو السؤال له وجاهة وبعض المنطق، ألمْ تكن المصالحة مستحيلة، وبين طرفيها خلافات واشتباكات واغتيالات ودماء مُسالة لعشر سنوات؟.
ألم تحتم المصلحة العليا لوطن مُغْتصب أن يجلس الطرفان إلى مائدة المفاوضات؟
هذا صحيح..
لكن لو تأملنا هذا المنطق قليلا، لهالنا حجم الفقر فيه، فالبون شاسع بين الأوضاع الفلسطينية والحالة فى مصر، الأوضاع الفلسطينية معقدة وجوانبها متعددة وظروفها خاصة جدا، وفى النهاية هى شعب فى مواجهة احتلال استيطانى مدعم بقوى عظمي، ولا يعقل أن يدخل فى صراع شرس على السلطة وهو لم يؤسس دولته ، لكن مصر.. أقدم دولة فى التاريخ، فقد حاول الإخوان دمجها فى جماعتهم دمجا تعسفيا، والإخوان مجرد هامش من المصريين، أظهرت مظاهرات 30 يونيو 2013 حجمهم الحقيقي.
وقطعا لسنا ضد أى مصالحة مع الذين لم يمارسوا عنفا وإرهابا ضد الدولة، لكن التسامح مع الجريمة، حتى لو لبست قناعا سياسيا خطأ قاتل دفعنا ثمنه أكثر من مرة فى السبعين سنة الأخيرة!
يبقى أعضاء الجماعة الذين لم يرتكبوا عنفا ولم ينخرطوا فى لعبة الطابور الخامس والخلايا النائمة، وهؤلاء أمرهم سهل طالما التزموا بالقانون..
والمدهش فى أمر الداعين للمصالحة أنهم ينسون أمرين ..
الأول: أن الإخوان هم الذين يناصبوننا العداء والكراهية، لأننا سحبنا توكيل إدارة مصر، من رئيس انتخبناه منهم، حين أحس الناس أن وجوده فى المنصب خطر بالغ على الوطن، فغضبت الجماعة وأعلنت الحرب علينا.
الثاني: أن تاريخ مصالحات الإخوان مع الدولة لا يشجع على هذه الخطوة، إذ تستغل سماحة المجتمع فى تجهيز نفسها وإعداد العدة للسيطرة عليه، وكانت آخر مصالحة فى عصر الرئيس أنور السادات وكان محتاجا إلى مساندة التيار الدينى لحصار الحركات الناصرية واليسارية التى كانت تؤرقه فى الجامعات المصرية، وورث الرئيس حسنى مبارك التركة وحافظ على المصالحة، فانتهزت الجماعة الفرصة وتمددت وتوحشت سياسيا واقتصاديا.
إذن الجماعة هى التى عليها أن تطلب السلام والعفو والسماح منا، ولنا شروط مبدئية قبل أن نقبل ، أولها أن تتعهد بالعمل وفق قواعد القانون فى مجتمعنا دون الخروج عليه أو الالتفاف حوله، فلن نخترع لها قانونا خاصا بها، يسمح بوجودها تنظيما دينيا، وحزبا سياسيا، ومؤسسات اقتصادية، وعضوا فى تنظيم دولي، هذه التركيبة التى عاشت عليها منذ عودتها فى سبعينيات القرن العشرين، لم تعد مقبولة على الإطلاق، لأنها غير صحيحة ومُفسدة لحياتنا و تتناقض مع مفهوم الدولة، ومع أى دستور فى أى مكان فى العالم، والبديل المتاح أمامها أن تختار إما أن تكون هيئة دعوية مشهرة طبقا لقانون الجمعيات الأهلية، أو حزبا سياسيا حسب قانون الأحزاب، أما العودة إلى الحالة الشمولية الشاذة التى كانت عليها، فهذا مستحيل، فإذا قبلت الجماعة فأهلا وسهلا، وإذا لم تقبل شروط القانون وما يفرضه عليها من إجراءات جبرية فلن يستطيع أحد أن يفتح لها بابا ولو خرم إبرة.
والسؤال هل ترضى الجماعة أصلا بخضوعها خضوعا تاما للقوانين المنظمة لنشاطها: تمويلا وعضوية وشفافية كاملة؟
صعب جدا أن تقبل، لأنه يهدم كل أسباب قوتها السابقة، فهى عاشت عمرها كله خارج «النظام العام» سواء قبل ثورة يوليو 1952 أو بعدها، جماعة لها قانونها الخاص فى العضوية والتمويل والنشاط والعلاقات الخارجية بعيدا عن قانون الدولة، وكان هذا الوضع الحر يمنحها قدرات هائلة فى الحركة والتأثير، ما بين نشاط اقتصادى واسع فى التعليم والصحة والتجارة ونشاط دعوى فى مساجد خاصة ودور تحفيظ قرآن، ونشاط سياسى فى البرلمان والعلاقات الخارجية مع دول أجنبية: إدارات ومؤسسات.
ثانيا: أن تراجع الجماعة أفكارها وما صنعته بالمجتمع المصرى ليس من 25 يناير 2011 إلى الآن، وإنما طوال تاريخها فهى التى انتهجت أساليب تصادم عنيف ومسلح منذ أيام الملكية فى منتصف الثلاثينيات، وبدأتها ضد الوفد حزب الأغلبية، ثم مع الدولة نفسها فى نهاية الأربعينيات، أى قبل أن يظهر الجيش المصرى على مسرح الحياة العامة فى يوليو 1952، ثم ضد سلطة الثورة والإجماع الوطنى فى مارس 1954 وفى عام 1965.
ثالثا: أن تصدر بيان مصارحة إلى الشعب تفسر فيه ارتباطاتها الداخلية والخارجية وبعضها مع أجهزة مخابرات أجنبية، ،لأن علاقة الإخوان لا تخص السلطات الحاكمة فحسب، فالشعب طرف أصيل فى المعادلة، وهو وحده صاحب الحكم النافذ فى هذا الملف، بعدما تحمل كل تكاليف إعلان الحرب عليه، دماء قضاة وضباط وجنود ومواطنين عاديين، وتخريب مؤسسات وإهدار موارد.
ولا أظن أن الجماعة يمكن أن تجرى مراجعات فكرية جادة، لأسباب كامنة فى بنيتها وهياكلها ونظرتها لنفسها وللمجتمع، صحيح أن ثمة موجات من الأخذ والرد تصاعدت داخلها، وقيل كلام عن مراجعات فى السجون أو فى الخارج، لكنها فى القيادات البعيدة عن التأثير وصناعة القرار، ولن يبقى أمام الشباب المتمرد على القيادات القديمة سوى الانصياع والطاعة لما يراه «الطاعنون» فى السن والفكر، ، والأهم أن الجماعة لم تحاول قط أن تراجع تصرفاتها العامة طيلة 80 عاما ولو لمرة واحدة، مهما كانت الأزمات التى عصفت بها والمحن التى وقعت فيها، لأنها لا تعترف على الإطلاق بأى خطايا كبرى ارتكبتها ، وتعامل نفسها كما لو أنها «معصومة» وقياداتها امتداد لصحابة رسول الله، لا يأتيها الباطل على أى نحو، وأن المصادمات المتكررة مع الدولة المصرية مجرد «بلاء واختبار» من السماء، وكيف تُراجع الجماعة مواقفها من مجتمع «تابع» لها إن لم يكن بإرادته اليوم، فبالإكراه غدا، وهذا مسجل فى رسائل حسن البنّا لأتباعه.
الأزمة فى بنية الجماعة وليست فى شئ آخر.
لمزيد من مقالات نبيـــل عمــــر رابط دائم: