رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ادخار عقارى وليس استثمارا عقاريا

فى زمن سابق كان الناس يضعون مدخراتهم تحت البلاطة، أما فى زماننا هذا فقد أخرج الناس مدخراتهم من مخبئهم تحت الأرض، وأظهروها فوق الأرض، فبنوا العمارات واشتروا العقارات. هذا هو ما يشير إليه أحدث تعداد للسكان والمنشآت. التعداد لا يتضمن بيانات تدلنا بشكل صريح على أهداف ملاك العقارات فى مصر، لكن فى التعداد بيانات تدعو للاعتقاد بأن جانبا كبيرا من التنمية العقارية الحادثة فى مصر لا يستهدف سد الحاجة للاستخدام، خاصة السكن، وإنما يستهدف سد حاجة الناس لوعاء ادخارى مضمون.

لقد زاد عدد سكان مصر، وزادت الحاجة للسكن، ومن الطبيعى أن يزيد عدد المبانى المتاحة ليتلاءم مع زيادة الاحتياجات. غير أن عدد الوحدات الجديدة المبنية زاد كثيرا عن الزيادة فى عدد السكان، الأمر الذى يدعو للاعتقاد بأن قسما من الوحدات العقارية لم يتم بناؤه لتلبية الطلب على السكن، وإنما لتلبية احتياجات أخرى. فبين عامى 2006 و2017 زاد عدد سكان مصر بنسبة 30.6%، فيما زاد عدد الوحدات التى تم بناؤها فى نفس الفترة بنسبة 53.9%، أى أن كل 1٪ زيادة فى عدد السكان قابلها 1٫76٪ زيادة فىعدد المبانى. ربما ذهبت بعض الشقق الجديدة لتحسين ظروف السكن لمواطنين كانت الظروف الاقتصادية تجبرهم على العيش فى سكن غير ملائم، غير أن هذا الاحتمال يظل غير كاف لتفسير الفارق الكبير بين الزيادة فى عدد الوحدات الجديدة، والزيادة فى عدد السكان.

فرضية البناء من أجل الادخار تتعزز بالنظر إلى بيانات إضافية كشف عنها تعداد السكان. فقد بين التعداد أن 10.1% من الوحدات السكنية الموجودة هى وحدات خالية ودون تشطيب، وأن هناك 10.8% أخرى من الوحدات خالية رغم أنه قد تم تشطيبها. يبلغ إجمالى عدد هذه الوحدات الخالية بنوعيها ما يقرب من تسعة ملايين وحدة، هذا بخلاف الوحدات المغلقة بسبب وجود مسكن آخر للأسرة (6.7%)، والوحدات المغلقة بسبب وجود الأسرة خارج البلاد (2.7%).

يقدم التعداد لنا دليلا إضافيا على أن جانبا من الأبنية التى تجرى إقامتها فى مصر لا يتم بناؤها من أجل الاستخدام، وإنما من أجل الادخار. فبيانات التعداد تشير إلى أن 23.1% من الوحدات المبنية لم تتم حيازتها، والمقصود هو أن صاحب العقار قد قام ببنائه، ولكنه لم يعرضه للبيع أو الإيجار، أو أنه قام بطرحه فى السوق دون أن يجد مشتريا أو مستأجرا.

لدينا إذن مواطنون لديهم بعض المدخرات، فاشتروا عقارات لا يحتاجونها فى الوقت الراهن. لدينا أيضا مواطنون آخرون لديهم أموال فائضة كثيرة، فبنوا عقارات ليس بنية بيعها أو تأجيرها فورا، ودون أن يصيبهم الانزعاج بسبب تجميد أموالهم وتعطيلها فى شكل عقارات خالية، حتى إنهم يواصلون بناء المزيد من العقارات التى لن يستخدمها أحد فى المستقبل القريب.

وصف عمليات البناء الجارية فى مصر باعتبارها استثمارا عقاريا هو خدعة كبيرة وتضليل خبيث، فالاستثمار يؤدى إلى زيادة مستوى الرفاهية فى المجتمع، عندما يقوم بإتاحة سلع وخدمات يحتاجها الناس. لكن عندما يتم إنتاج سلعة لا يحتاجها أحد، أو أن الحاجة لها لن تظهر إلا فى المستقبل البعيد، فإن ما يحدث لا يزيد عن كونه تحويلا للثروة المدخرة من شكل إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى، أى تحويلها من صورة السيولة النقدية، إلى صورة العقار المبني، الأمر الذى يبرر وصفنا لما يجرى فى القطاع العقارى باعتباره ادخارا وليس استثمارا.

لا يمكن وصف ما يجرى من بناء من أجل الادخار بالرشادة. فالادخار بصفة عامة له تكلفته، ولكن هذه التكلفة يجب أن تكون محدودة؛ كأن يحتاج المدخر لشراء خزينة حديدية عالية التأمين، أو يقوم بالحفر فى أرضية بيته؛ ولكن أن يتم شراء أراض، واستخراج تراخيص، واستهلاك مواد بناء، دون أن يستفيد أحد من وراء كل هذا الجهد، ففى الأمر بكل تأكيد عبث وإهدار حقيقى للثروة والموارد المحدودة فى بلد فقير مثل بلدنا.

لقد كان الادخار تحت البلاطة فى الماضى قرارا رشيدا لأن الأموال المكتنزة لم تكن تفقد قيمتها بسبب التضخم المرتفع. أما فى أيامنا هذه فإن المدخرات النقدية مهددة بتناقص القيمة، لذا يفضل الناس تحويل الأموال السائلة إلى سلع لا تبلى بمرور الوقت، وهو ما يوفره الادخار فى العقارات. وسواء اختار الأفراد وضع أموالهم تحت البلاطة أو تحويلها إلى عقارات، فإن جوهر سلوكهم يظل فى الحالتين هو نفسه: اكتناز الثروة، فلا هم استخدموها، ولا هم أتاحوا للآخرين استخدامها.

سلوك الأفراد الذين يختارون التصرف بهذه الطريقة هو سلوك رشيد تماما من وجهة نظر مصلحتهم الشخصية، لكنه سلوك مدمر من وجهة نظر مصلحة الاقتصاد الوطنى والمجتمع. فأى تجميد للثروات، بوضعها تحت البلاطة أو بتجميدها فى شكل عقارات، يضع هذه الثروات خارج التداول، ويحرم المجتمع والاقتصاد الوطنى منها. حدوث شيء مثل هذا فى أى بلد يمثل إهدارا للموارد، أما أن يحدث هذا فى بلد فقير يعانى شحا فى الموارد، وتبذل فيه جهود خارقة، وتقدم إغراءات سخية لجذب رؤوس أموال أجنبية، فإن فى الأمر فشلا كبيرا، وخللا شديد الخطورة.

ما يحدث فى قطاعنا العقارى هو حالة صريحة عجزت فيها يد آدم سميث الخفية عن تحقيق المصلحة العامة للمجتمع من خلال تحقيق مصالح الأفراد. لا لوم على أفراد يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة، لكن اللوم يقع على حكومات متعاقبة سمحت بظهور واستمرار هذا الوضع، عندما امتنعت عن التدخل لمعالجة فشل آليات السوق فى زيادة الرفاه العام، والمطلوب هو تدخل حكومى رشيد يصلح آليات نظام السوق، لا أن يهدمها. عندما واجهت مصر مشكلة مشابهة فى الخمسينيات قامت الحكومة بتخفيض الإيجارات وتقييدها، فظهرت لنا مشكلة الإسكان، ومشكلة الإيجارات القديمة التى مازلنا نحاول التعامل معها حتى اليوم. وبالطبع فإننى لا أدعو الحكومة للتدخل بمثل هذه الطريقة الغاشمة، ولكننى أدعوها لتطوير آليات جديدة للسوق، تحقق مصالح الأفراد، فى نفس الوقت الذى تحقق فيه مصلحة المجتمع.

لمزيد من مقالات د.جمال عبدالجواد

رابط دائم: